واقع وإشكالات الرواية البوليسية

 

لاشك في أن كتاب «الرواية البوليسية التأصيل والتحول» للكاتب محمد الكرون يسد فراغا في المكتبة المغربية خصوصا والعربية عموما، فالكتب التي تناولت جنس الرواية البوليسية قليلة جدا، تكاد لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، مما يجعل الباحث في هذا الميدان أعزل، لا يعتمد في بحثه إلا على نتف من المقالات المتناثرة هنا وهناك، وهي مقالات لا تشفي غليل الباحث في فهم هذا الجنس من حيث خلفياته وبداياته ونصوصه وأعلامه والإشكالات التي يطرحها متنه المكتوب، لهذا يعتبر هذا الكتاب لقيا بكل معنى الكلمة. وقد تناول فيه الكاتب أهم القضايا التي تهم الرواية البوليسية من قبيل الخصائص الفنية ومراحل تطور هذا الجنس الأدبي، فضلا عن إرهاصاته الأولى وتأثرها ببعض الكتابات، التي تبدو في الوهلة الأولى بعيدة عن الجو البوليسي، من قبيل أسطورة أوٌديب والأدب القوطي والرواية المتسلسلة.
وقد افتتح الكاتب مؤلفه بتقديم ذكر فيه العوائق التي تعترض منجز الرواية البوليسية من حيث التاريخ والنشأة والتكوين أو الماهية أو الانتماء من عدمه إلى الحقل الأدبي، محاولا الإدلاء بدلوه في حل هذه الإشكالات مقدما وجهة نظره فيها، دون أن يفوته الدفاع عن شرعية هذا الجنس الأدبي، الذي يرى المؤلف أنه استطاع أن يفرض نفسه على الساحة الأدبية، وينال اعتراف النقاد والباحثين في المحكي الروائي انطلاقا من أواخر القرن الماضي. وقد تحقق له ذلك حسب الكاتب بعد أن انفتح على ما أطلق عليه الأدب الرسمي، فتم التلاقح والتأثر والتأثير المتبادل بين مكونات الرواية البوليسية وآليات الحكي لما أسماه بالرواية الرسمية.
بعد ذلك اختار الكاتب أن يوطئ للكتاب بمدخل عام ناقش فيه كيفية ظهور جنس أدبي إلى الوجود، قائلا بأن الأنواع الأدبية لا تظهر بالصدفة، وإنما تنتج عن تحولات جنس أدبي آخر تنسلخ عنه، بسبب شروط تاريخية واجتماعية واقتصادية تلعب دورا محوريا في ولادته ونشأته باعتبار أن المحدد للأنواع الأدبية هو حاجيات المجتمع لمثله الجمالية والفنية، التي يفرضها الوضع التاريخي والاجتماعي والثقافي، الذي تفرز هذه الأجناس الأدبية.
ليخلص إلى أن الرواية البوليسية لم تشذ في ولادتها عما تقدم، إذ استندت في ولادتها ونشأتها على الموروث الأدبي الذي سبقها في تناول موضوع الجريمة والمجرمين وفك شفرات الألغاز، كما استفادت من الظروف الاجتماعية، التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، كالنظام الرأسمالي وتوسع المدن جراء الهجرة القروية وتطور الفكر العقلاني، مما أوجد تربة خصبة لظهور المحكي البوليسي وتطوره.
وقد حاول الكاتب تحليل هذه الأوضاع التي ساعدت على نشأة الرواية البوليسية، فتوقف عند أسطورة أوديب والرواية القوطية والرواية المتسلسلة بالإضافة إلى مذكرات الشرطة وأخبار الحوادث في الجرائد، فضلا عن العوامل الاجتماعية والتحولات العميقة التي عرفها المجتمع سياسيا واقتصاديا وثقافيا، ليخلص إلى أن الرواية البوليسية وليدة حداثة القرن التاسع عشر الذي تسلح برؤيا جديدة قوامها العقلة والتقنية والحرية والديمقراطية. كل ذلك استفادت منه الرواية البوليسية فيما يتعلق بجرأة طرح السؤال والتحليل المنطقي والعقلاني المبني على أسس العلوم الوضعية في حل القضايا الملغزة.
في الفصل الذي عنونه ب «ما الرواية البوايسية وما خصائصها»، أبرز صعوبة التعريف واختلاف النقاد اختلافا كبيرا في ذلك نظر لتعدد الاتجاهات وتنوع المحكي البوليسي، وتعدد المقاربات في ما يخص عناصرها الاساسية الثلاثة، والتي حصرها في الجريمة والمحقق والمجرم، علاوة على اللحظة التاريخية التي نشأ فيها كل إبداع بوليسي على حدة، ليخلص إلى ان الرواية البوليسية تضم عدة أصناف سردية، ميز منها رواية اللغز والرواية السوداء ورواية التشويق.وقد قام الكاتب بتعريف هذه الأنواع الثلاثة. فرواية اللغز يرى أنها تنهض على عنصري الجريمة والتحقيق في صياغة بنيتها السردية بطريقة مقلوبة، ويعد إدغار آلان بو أحد روادها، أما الرواية البوليسية السوداء فظهرت في الولايات الامريكية وتعد رواية أجواء ومرآة تنعكس عليها صورة مجتمع تغشاه الرشوة وفقدان الأمل، وتقوم في أسلوبها على المزج بين قصة الجريمة وقصة التحقيق، فالاهتمام فيها ليس منصبا على لغز الجريمة، بل على الأسباب والدوافع التي قادت إلى ارتكابها، فيما عرف الكاتب رواية التشويق باعتبارها محكي الضحية، ويتمحور الرهان فيها على الحيلولة دون مقتل المشتبه به حتى يثبت براءته من خلال العثور على الجاني الحقيقي.
وفي الفصل المخصص للخصائص الفنية للمحكي البوليسي توقف الكاتب بكثير من التفصيل عند مكوناتها، وهي الجريمة والتحقيق والإثارة والتشويق والشخصيات. ثم انتقل ليحدثنا عن الإرهاصات الأولى للمحكي البوليسي ليخلص فيه إلى أن إدغار ألان بو أول من طوع عمل الشرطة، الذي يختص بالتحقيق والتحري حول الأعمال الجنائية ليصبح أثرا أدببا تتلهف لقراءته شريحة من المعجبين به كلون أدبي ممتع.
أما في مرحلة التأصيل فأكد الكتاب بأن البداية كانت في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن التأصيل الفعلي لجنس الرواية البوليسية فتم في انجلترا على يد مبدعين رواد من قبيل شارلوك هولمز وأغاثا كريستي ودوروتي سايرز، محاولا في عجالة تقديم نبذة عن بعض الرواية المؤسسة ك» جريمة في قطار الشرق السريع» لأغاثا كريستي.
أما مرحلة الرواية البوليسية السوداء التي ظهرت خلال عشرينيات القرن العشرين على يد روائيين أمريكيين، وهما دتشيل هاميت ورايموند شاندلر، واختار هذا النوع من الرواية أن ينهل من معين الأحداث الاجتماعية ومن عالم العصابات وانحراف الشباب والصراع السياسي، وسقوط المواطن في دوامة العنف الاجتماعي حيث أصبح التبئير في نصوصها، مركزا على آفات الواقع الجديد من منظور مأساوي قاتم.
أما بخصوص المحكي البوليس العربي، فيشير الكاتب إلى أن السرد العربي عرف بعض المحاولات لإبداع نصوص في جنس الرواية البوليسية، لكنها لم تصل على مستوى التخييل والسرد البوليسي إلى مرتبة الاحترافية والقصدية في إبداع نمط حكائي بوليسي وتطويعه للنبش في إشكالات الواقع العربي. وأرجع المؤلف لسباب ذلك إلى غياب الديمقراطية وحرية التعبير والانغماس في التحديث بدل اعتناق الحداثة وضعف ثقافة الروائيين بآليات التحري وتهميش النقاد للمحكي البوليسي.
وتوقف الكاتب في فصل حول الرواية البوليسية المغاربية على التجربة الجزائرية من خلال إبداعات ياسمينة خضرا والمغربية من خلال الروائيين ميلود الحمدوشي وعبد الإله الحمدوشي.


الكاتب : مصطفى لغتيري

  

بتاريخ : 27/06/2024