وثائقي عن تاركوفسكي.. حين تصبح السينما أقرب إلى ندوب القصيدة

في يومياته التي طُبعت في كتابٍ واحد للمرّة الأولى عام 1989، يقول المخرج الروسيّ أندريه تاركوفسكي (1932-1986): «لا يتعيّن على الطفل أن يكون أعجوبة، أو نابغة. عليه أن يكون طفلًا فقط». في الكتاب نفسه يقول: «من المهمّ أن تطبع كتابك أو تعرض لوحاتك. ولكن إذا لم يكن ذلك ممكنًا، فإنّه لديك أهمّ شيء: القدرة على العمل دون أن تطلب إذنًا من أحد. لكن في السينما، الأمر غير ممكن لأنّك لن تستطيع أن تصوّر لقطة واحدة إن لم تسمح لك الدولة بذلك».
تدوينتان كُتِبتا ربّما على عجل، في دفتر يومياتٍ كان خزّان أسرار وأفكار تاركوفسكي، وإذ بهما تختزلان، وإلى حدٍّ بعيد، حياته الشخصية والسينمائية في توقيتٍ واحد يدلّ بدوره على التحام أفلامه بحياته، وحياته بأفلامه، دون أن يصل الأمر إلى حدود التماهي، أي إلى المكان الذي يصير عنده الفصل بين حدود هذين العالمين، أمرًا صعبًا. تاركوفسكي نفسه منع لحظة التماهي هذه، أو لنقل إنّه عمل على تأجيلها لأسباب عديدة، منها قناعته بأنّ المساحة الفاصلة بين ما هو شخصي، ومهني، هي المساحة التي يحتاجها الآخرون لاستكشاف صاحبها واقتفاء أثره.
هكذا، سنقرأ في التدوينة الأولى ما معناه أنّ على المخرج أن يكون مُخرجًا فقط. شرط ألّا يُغفل شيئًا مما تنطوي عليه تلك المفردة من معاني. بينما سنقرأ في الثانية ما مفادهُ أنّ أندريه تاركوفسكي عاش حياته يبحث عن الحرية، إن كان في العيش، بعد إبعاده قسرًا عن وطنه، أو في العمل أيضًا، بعد تعرّضه لمضايقات وتضييقاتٍ كبيرة، ناهيك عن منع بعض أعماله في الاتّحاد السوفييتي. سنحتفظ بمفردة «مُخرج» من تدوينته الأولى، بينما سنأخذ من الثانية مُفردة «حرّية»، بحيث نتعامل معهنّ كمدخلٍ ضروري لا بدّ منه لفهم أجواء شريط «أندريه تاركوفسكي: صلاة سينمائية» (2019) الذي أخرجه أندريه تاركوفسكي الابن بهدف استعادة تاركوفسكي الأب.
الهوية السينمائية الثابتة للفيلم الذي عُرض لأوّل مرّة في النسخة الفائتة من مهرجان البندقية السينمائي هي هوية وثائقية، أو بيوغرافيا عن تاركوفسكي، استنادًا إلى أرشيفه الضخم والمحفوظ في مدينة فلورنسا الإيطالية. أرشيف سيتكئ عليه تاركوفسكي الابن، وينهل منه الأساسات التي شيّد عليها فيلمه؛ تسجيلات صوتية ومشاهد مرئية نادرة. بالإضافة إلى مجموعة من الصور الشخصية التي تستعيد حرّيف السينما الروسية في مراحل مختلفة من حياته، وفي أمكنةٍ متعدّدة أيضًا. هكذا، سنرى تاركوفسكي طفلًا في بيت العائلة، في سريره، وفي أحضان والده كذلك، وأحضان الطبيعة. كما سنراه مُخرجًا في مواقع التصوير، أو متسكعًا في بيت الريف الذي ما إن نراه حتّى نستعيد ما كتبه في يومياته بعد أن شرائه له: «ديوان مروّعة… لا يُمكنني أن أتخيّل ما الذي سيحدث لنا».
هذه المرّة، لن يقف صاحب «طفولة إيفان» خلف عدسة كاميرته، رفيقة دربه وشريكته في رحلات استكشاف الضوء في أشدّ الأمكنة عتمة. وإنّما أمام كاميرات الآخرين، دون أن يطيل الوقوف في مواجهة عدساتها، تلك التي التقطته إمّا مصادفة، أو ضمن مواعيد مُحدّدة مسبقًا، أخذ يسرد فيها ما يجول في خاطره من أفكار وملاحظات حول صنعة الشاشات الكبيرة، تلك التي يُستضاء بها عنده، ويُنحَتُ بها الوقت كذلك. إنّها، وبحسب قوله، صلاة خالصة، ولكن بطقوس مختلفة، ضمنها الحيرة الوجودية والمساجلات الفكرية التي لا بدّ منها ليكتمل مناخ العمل؛ أي عملٍ سينمائي حقيقي، لا يفرض فيه المخرج أفكاره على جمهوره، بل يترك له ما يكفي من الوقت والمساحة لخوض ما يبثّه العمل من روحانية تتصاعد به بحيث ترفع وتيرة انتباهه إلى أقصاها، والهدف الخروج بانطباعاتٍ نهائية سليمة، وأسلوبٍ يتمكّن عبره من التعامل مع ما يراه.
لا تبدو الدقائق الـ 97 كافية لأندريه تاركوفسكي ليقول كلّ ما يعتمل في صدره. ولا تبدو كذلك بالنسبة للمشاهد. ولكنّها، وأقلّ ما في الأمر، فرصة لاستكشاف عوالم المخرج الروسي، والاطّلاع، وإن ضمن حدود ضيّقة، على بعض أسراره لجهة طبخ أفلامه وتقليب مادتها الخام. كما أنّها فرصة للتعرّف على صاحب «القربان»، واقتفاء أثره بعيدًا عمّا كُتب عنه. تاركوفسكي هنا، وعلى امتداد 8 فصول توازي أفلامه الثمانية، سبعة طويلة وواحد قصير، يتحدّث إلى المشاهد بنفسه وبلغةٍ شاعرية هي نتيجة وحصيلة ولعه بالشّعر، أو ولعه بوالده تحديدًا.
يولي صاحب «أندريه روبيلوف» أهمّية كبيرة للشِّعر، باعتباره، كما يُخبرنا ووفقًا لما يراه أيضًا: وعي العالم. هكذا، سيقرأ قصائد كتبها أرسين تاركوفسكي، والده، قبل أن يسهب في الحديث عن الشِّعر، فيقول إنّ ليوناردوا دافينشي كان شاعرًا قبل أن يكون رسّامًا، وأنّ باخ كذلك كان شاعرًا قبل أن يكون موسيقيًا، وكذا شكسبير وتولستوي. تمامًا كما لو أنّ المرء يولد شاعرًا، قبل أن يختار ما سيختاره لنفسه فيما بعد.
اختار تاركوفسكي الابن التفاصيل التي بنى عليها والده سينماه لكي ينسج عبرها عمله هذا. 97 دقيقة بدت غير كافية لاختزال حياته كاملةً، ولكنّ المخرج الروسيّ كان يرمي هنا وهناك بجملٍ وعباراتٍ كافيةً لفعل ذلك. حياته القصيرة التي سيرويها بجمل شديدة الاقتضاب، لا تبدو إلّا كناية عن مسيرة قصيرة، وأفلام قليلة، تمامًا كما لو أنّه يخاف الاتّساع في كلّ شيء، بما في ذلك العيش. هكذا، لا يبدو تاركوفسكي معنيًا بسرد تفاصيل حياته بقدر ما تشغله مسألة أن يشارك الآخرين أفكاره، مُشيرًا عبرها إلى ما ينغي إعادة بنائه، وإلى ما ينبغي هدمه أيضًا. وإذ به يُعرّي منظومة قيم فاسدة، حالت دونه ودون إنجاز ما تمنّى إنجازه. فظلّت هذه الأعمال المؤجّلة أو المعلّقة أقرب إلى ندوبٍ في ذاكرة من انتهى بسرطان الرئة، بعيدًا عن بلاده التي بحث عنها ككنزٍ مفقود.


بتاريخ : 04/01/2020

أخبار مرتبطة

  1 – حب شاهق مثل” جبل عصفور” خلال مناقشة فيلم “وحده الحب” الذي عرض ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة

تتويج « وحده الحب « للمخرج كمال كمال جائزة الإنتاج وفيلم «عصابات» لكمال الأزرق بالجائزة الكبرى ، و» كذب أبيض

شارك في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية الطويلة بالمهرجان الوطني للفيلم بطنجة   عرض الفيلم الوثائقي “رزق من ورد” للمخرجة المغربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *