وجهة نظر … لا يزال المسرح بخير بمعاهد الدار البيضاء

إلى الأصيل إنسانيا و فنيا: محمد سطيلي
قيض لي في الآونة الأخيرة، أن أحضر وأواكب عرساً مسرحياً، بكل ما للكلمة من مغزى ومعنى، دام أربعة أيام بقاعة العرض التابعة للمركب الثقافي سيدي بليوط، وسط مدينة الدار البيضاء.
أبطال هذا الكرنفال الفني، شباب مجدوب ومهووس بأبي الفنون، هم طلبة قسم المسرح العربي والفرنسي على السواء، بمستويات المتوسط الثاني و العالي الاول و العالي الثاني، بمعاهد المجموعات الحضرية، بمختلف مقاطعات العاصمة الاقتصادية.
حضر الطلبة لتقديم مشاهد من المسرح الكلاسيكي باللغة العربية، ثم مشاهد عصرية باللسان الدارج. وكان التباري في اليوم الأول قصد الحصول على الوسام الأول، بالنسبة لطلبة المتوسط الثاني، الذين قضوا خمس سنوات دراسة. اليوم الثاني كان من نصيب طلبة العالي الاول ، الذين قضوا ست سنوات دراسة، قصد التباري على المشارفة الأولى، أما اليوم الثالث فاعتلى ركح مسرح سيدي بليوط، طلبة العالي الثاني، وهم في سنتهم الأخيرة بالمعهد، قصد الظفر بالجائزة الأولى. ونظرا لقلة الطلبة، الذين يتابعون دراستهم المسرحية بلغة موليير، فقد خُصص لهم اليوم الرابع والأخير، قصد التنافس على الشواهد نفسها : الوسام الأول، المشارفة الأولى والجائزة الأولى، وبالشروط السابقة ذاتها، أي بأداء مشهدين، الأول كلاسيكي والثاني عصري.
رغم قصر المدة الزمنية المخصصة لهذه المشاهد، المؤداة من قبل الطلبة، والتي تكون أحيانا عبارة عن مونولوجات، فقد ساهمت في إمتاع الجمهور العاشق لهذا اللون الفني، ولا أخفي أنني واحد منهم، سافرت بي هذه اللوحات المسرحية وانتشيت بها، رغم تباين المستويات بين بعضها البعض.
هناك ملحوظة تفرض ذاتها، تتعلق بالمجهود الملموس، الذي بذله جل هؤلاء الطلبة، لتقمص الشخصيات التي أدوها، معتمدين في ذلك على إلقاء يحترم – في الغالب – قواعد النطق ومخارج الحروف، ثم التحرك فوق الركح بأناة وثقة في النفس، خاصة في الأدوار الكلاسيكية، التي ساهمت الملابس والأكسسوارات، في الاقتراب أكثر من تلك الشخصيات المتقمصة، ولا يمكن في هذا الإطار، أن نغفل الدور الأساسي، الذي يقوم به طاقم أساتذة التعليم الفني، في تكوين وتأطير وإعداد هذه الطاقات الشابات، قصد ولوج الساحة الفنية، وبصم أسماءها فيها، باقتدار وتميز.
عودة إلى أجواء التباري، لا بأس من الإشارة إلى بعض الهفوات التي شابت، عملية اختيار الأدوار المشخَصة من لدن البعض، خاصة في الشق العصري، المفروض أن يبرز فيه الطالب، جانبي الخفة والمرح، اللذين يتوفر عليهما، أو يجب أن يتمرن عليهما، بإيقاع عال وسريع، وجيد في الآن ذاته للحوارات. وفي هذا الجانب لا بد من استحضار بعض ممثلينا الرواد، الذين برعوا في هذا النوع من التشخيص، ولأوضح أكثر فبعض المتبارين، تفوقوا بشكل ملحوظ في أدوارهم الكلاسيكية، وعندما انتقلوا إلى العصري، لم يضف لهم الشيء الكثير، لأنه جاء قريبا من الأول، الفارق فقط، في الحوار بالدارجة عوض اللغة العربية، وهي ملاحظة – رغم ذلك – لا تنقص من أهمية وقيمة ما قُدم فوق ركح مسرح سيدي بليوط، خلال تلك الأماسي، التي كانت آخرها مسك ختام، بمغزى الكلمة فعلاً. خلالها أبان جل طلبة المسرح الفرنسي، عن علو كعبهم، في الحضور الوازن فوق الخشبة، والتشخيص المسرحي، باحترام جيد لكل قواعده.
وطبيعي أن يكون هؤلاء بهذا المستوى، إن كان من يدرسهم، هو قيدوم أساتذة المسرح بلغة موليير، الأستاذ محمد الحسني العلمي، الذي تخرجت على يديه أفواجاً كثيرة من الممثلات والممثلين، والشهير في الوسط الفني بِـ « موسيو العلمي «.
سررت كثيرا، وشكرت كذلك الظروف، التي يسرت لي مواكبة مباريات المسرح لهذا الموسم، بعد أعوام كثيرة من الغياب عن حضورها، لذلك اعتبرتها عرسا فنيا، دام لأيام أربعة، انتشيت بأجوائه، التي سافرت بي وأخرجتني من ضغوطات الوقت والعمل، وطهرتني نفسيا من كل طاقة سلبية، كان البعض قد لقحني بها، متعمدا أو عن غير قصد، الأمر سيان.
من دواعي هذه الغبطة كذلك، أن هذه الفرجة التمثيلية القصيرة، أعادتني لعقود خلت، كنت خلالها أنا أيضا طالبا بقسم المسرح العربي، بالقاعة رقم 8، تحت إشراف الفنان والأستاذ « بوشعيب الطالعي « شافاه الله، وأجريت رفقة طلبة فوجي، المباريات الثلاث، بالمقر الجديد – وقتها – للمسرح البلدي بشارع الجيش الملكي : وعلى عكس كل الآراء المتداولة والرائجة، من قبل مجايلي واللاحقين عنهم، بأن مستوى الطلبة تدنى وتراجع، وإن كنت أنا أيضا، في بعض الأحيان، أساير أصحاب هذا الرأي، دون اقتناع، فقط لتفادي الدخول في متاهات، ما يعرف بصراع الأجيال، وهو أمر حاصل في شتى المجالات، وليست الفنية بمفردها. بالأمس كانت هناك طاقات، بَصمت – فيما بعد – اسمها بقوة في الساحة الفنية، عندما وجدت من يأخذ بيدها ويوجهها ويساندها. الأمر نفسه حاصل اليوم، هناك مشاريع ممثلات وممثلين، سيكون لهم شأن في المستقبل، إن وجدوا اليوم، هم أيضا من يدعمهم ويساندهم.
هذه المواهب الفنية الواعدة، موزعة على المعاهد التي تغطي تراب كافة مقاطعات الدار البيضاء، التابعة إداريا لمعهد شارع باريس، تحت إشراف قيدوم أساتذة و إداريي هذا المعهد المَعلمة التاريخية، الفنان والأستاذ « عبد اللطيف بنوأحد «، الذي ترأس لجنة المباريات المسرحية، بمعية طاقم لجنة تحكيم متناغم، يجمع دكاترة باحثين ومختصين بالشأنين الأدبي والفني، ثم فنانات وفنانين مرموقين، إضافة إلى أساتذة مادة المسرح، بالعربية والفرنسية على السواء.
ولا أعتقد – في ختام هذه الورقة – أن صداقتي، بجل أساتذة التعليم الفني، بمعاهد الدار البيضاء، تمنعني من الاعتراف بمكانتهم، وقيمتهم التربوية والفنية، والثناء على ما يبذلونه من عناء وتضحية، من أجل تكوين وإعداد، جيل فني جديد.


الكاتب : عبد الحق السلموتي

  

بتاريخ : 19/07/2022