(1)
أُدرّبُ قَلبي
على مطاردة الغيم
على عشق الرحيل
في أرْض تكنس الليل
تسهر على رعاية النهار
تغلق نوافذ الوهم
وتشرع أفقا تطرزه جبال اليقين
فأنا مدمنُ تيهٍ
أروض الخطو في يناعة المسالك
أختلس من خزانة القلب بعض الذكريات
بعض الصور الغابرة في عتمة الذاكرة
أخبئها في جراب الحيرة
للقادم من ليل طويل
كي تضيء سماء الظهيرة الفارغة من العصافير
وتشنّ الحرب على أعداء محتملين
لن أكون حارس السراب
في قبائل تزرع الخراب في الحياة
يدججها رصاص الفراغ
تلتحف موتاها الأحياء
وهم ينثرون عمرهم على حاشية النسيان
وينتظرون هباء الآتي
يملأون سلال الرتابة بفاكهة اليأس
وكثير من مغانم الندم
ويعودون إلى بيوتٍ تزنّرها عناكب الخريف
فأنا الواحد المتعدّد
أسرِف في العزلة كما تريد مشيئة القبّرات
أرعى الجبال
أطوق السهوب بما ملكتُ من خطاطيف الخيال
أصدح بملء الغروب نشيد الأقاصي
أعاشر صمت الأبدية
وأتوسّد غيمة عابرة سمائي
(2)
لا وقت لي
الأوكار تصبّ بيضها على رأسي
وتخون الأشجار
الدوري ينام على أريكة الغروب
ويبعث برسائل غرامية لحبل الغسيل
القمر مريض بزكام الغيوم
لذا يترك الأرض تسبح في الظلام
السماء تعرّي مفاصلها لشمس الظهيرة
بينما البحار تلتحف صمت البواخر
وأنا أعدّ للآتي قهوة الأرق
طريق واحد
يدٌ واحدة ُالشرفة
واحد أنا وحيد
وهذا الجمع ينصبُ خيمة الشتات
وأخرج بمفردي أحمل شارة الهزيمة
مقلوبة الرجلين
خاويتين من إرادة الحياة
خلفي متون ثقيلة الأغلال
وأمامي صحراء خفيفة التّيه
(3)
قَبْل الغمْر
كنتُ وحيداً أطْوي اليابِسة
تصحبُني بجعاتُ الماء
نوارس بحر منسيّ في السّديم
أصوات الصيّادين التي تطوّق العباب
بضحكاتٍ تخاتل خوف القادم
قوافلُ الصّمت الضّاجّة بنحيب العاطفة
حشود الحاضر الهارب من مستقبل غامض
وماضٍ يسبحُ في نعيم الذاكرة
قهقهات وقتٍ ضاربٍ في الرّتابة
صيحاتُ الأُمّهات الغارقات في جلال الانتظار
يطرّزن المدى بنظرات حائرة
ويملأن جرار قلوبهن بعطش العناق
فقراء يُهرّبون الأحلام في حقائب الأمل
أغنياءُ يخزّنون الحياة في صناديقِ الأبد
عمّال النظافة يمرغون السّماء في فداحة الأرض
ويرتّبون الغبار على رفّ ضلوعهم بمحبة زائدة
ويبتسمون في مرايا النهار بوجوه تطفحُ
بجذَل الأطفال
قبْل الغمْر
لم أفكّر في سفينة
ولا في ركّابٍ يعطسون وجع الأرض
ولا في حيوانات تهرّب الظّلال من الغابة
ولم تكنْ لي نية لخداع الطّين
ولضرب الفراغ بما يكفي من لكمات من يدين
غارقتين في تطويع التحايا
كنتُ أفكّر فقط
في شجرة يتيمة في الصحراء
في مجرى نهر نحيف الخرير
في صيحة تسكن عقل الجبال
في نمْل يبيتُ في غيران العدم
في منحدرات تضجّ بجاذبية الأعالي
في كتاب تمزّقه رطوبة التأويل الفاسد
في لوحة معلّقة قرب سقف خجول من شمس الصباح
تصرخ في وجهها ريح ماكرة
في معطف خبير بأنفاس الكائن
بحيرة القلوب
وأرق العاطفة
لكنْ
بعْد الغمْر
أتبدّد مثل صورة ناشفة من الألوان
و العالم ينقلب في رأسي
الأفكار تتجرّد من الخيال
والسفينة تمشي غريبة الوجه في البحر
فارغة من جلبة الأرض
مترعة بمطر يجلُد الصحراء بنخيل الثّلج
لا أحد معي
أقف على حطام الفجر
أندب حظ الوقت ونَصيبي أُورِّثُهُ لِحُرَّاسِ الْعُزلات