في سبعينات القرن الماضي، برز في المحمدية شخص بوعزة كواحد ممن نسمّيهم اليوم بالفاعلين الجمعويين..كان بحكم مزاجه المتفتح على الجميع، ثم بفضل عمله في المهن التربوية والثقافية قد وجد نفسه في صميم المعترك الشبابي ، مؤطرا ومخططا للأنشطة الفنية في هذه المدينة الصغيرة وضواحيها.. وكنتَ تراه على الدوام منشغلا بفكرة مشروع أو مهموما بإطلاق مبادرة..يفتح محفظته التي لا تفارقه ويعرض أمامك على طاولة مقهى أو حتى على رصيف الشارع شيئا مما يشغل فكره ويبلبل كيانه..هذا هو بوعزة كما عرفناه على مدى السنوات، حيث كنا نصادفه في مهرجانات السينما ومؤتمرات اتحاد الكتاب وفعاليات الجمعيات الثقافية كبر أو صغر شأنها.. يأتي إليها مسافرا ويحجز غرفة في فندق قريب على حسابه لأنه لم يكن يرضى أبدا أن يقال عنه ما يشاع عن طفيليي الثقافة والفن..ثم تجده منذ الافتتاح مواظبا على حضور الجلسات والتقاط الصور ومحاورة أصدقائه من الكتاب والفنانين، والسهر إلى جوارهم إلى ساعة متأخرة كما هي عادتهم التي صارت هي عادته كذلك..
وعندما كانت تتاح له الفرصة، كان يتحول من تلقاء نفسه إلى دينامو متحرك ويشرف شخصيا على إقامة نشاط أو ندوة أدبية أو فكرية أذكر منها على الخصوص ذلك اللقاء الباهر الذي نظمه في مصيف المنصورية قرب المحمدية على شرف الكاتب الكبير محمد زفزاف، وذلك سنوات قلائل قبل رحيله عن عالمنا..
كان قد اختار بعد أن أحيل على المعاش قبل فترة ليست بالطويلة أن يغيّر مكان إقامته إلى مدينة الصويرة التي ربطته بها أواصر قوية منذ زمن بعيد.. وعاد إلى شلّته الحميمية هناك المشكلة من القاص أحمد بومعيز والشاعرين مصطفى الرادقي ومبارك الراجي والفنان التشكيلي سليمان الإدريسي، يصرف بصحبتهم أطرافا من النهار والليل في الحديث عن الثقافة والسينما والفنون..ويخصص باقي الأوقات للتّيهان مثل شخص مسرنم في أزقة المدينة العتيقة، حيث يبدو أشبه ما يكون بديوجين معاصر يبحث عن سر غامض ضائع وسط الرطوبة ورذاذ البحر..
وقبل مدة اتصل بي الأصدقاء في المحمدية وأبلغوني بأن النسيج الجمعوي للمدينة يقيم تكريما جماعيا لبوعزة المقلاشي كنوع من الاعتراف بما بذله في خدمة الثقافة والعمل الشبابي على مدى أربعة عقود دون أن ينتظر شكرا أو اعترافا من أحد..وأذكر أنني بدون تفكير تقريبا، عقدت العزم على الحضور وذهبت بالسيارة صحبة الصديق عبد الرحيم العلام مع بداية المساء..وهناك وجدنا الجمع قد التأم في دار الثقافة في الطريق إلى الشاطئ.. أصدقاء قدامى.. صحفيون..كتاب.. مناضلون.. جيران..كلهم جاؤوا عن بكرة أبيهم ليحيوا تحية الصداقة هذا الرجل الخجول الذي كرس حياته دون منّة لكي يتنشق الناس شيئا من الفن والثقافة في هذه المدينة الهادئة والصحية مثل مستشفى.. بدأت الكلمات المشيدة بجهوده وتاريخه تتوالى تباعا وهو قابع بجوارنا يستمع للمتحدثين كأنهم يقصدون شخصا آخر غيره..لا هو بالذات والصفات..
أنيس الرافعي يستعيد لحظات السهر معه بصحبة الشباب في مقاهي الدار البيضاء وجولات شارع محمد الخامس قبيل الفجر..وإدريس الخوري يتناول سيرته من منظور النميمة السردية التي وضع أسسها الراسخة في مجموعته السبعينية (ظلال)..سعيد عاهد يعالج علاقته بالصحافة التقدمية ونضاله من أجل أن يكون للمحمدية موقعها المستحق على الصفحات الثقافية..بنداود يمسّد لحيته الفيتنامية وهو يتذكر لقاءاته ببوعزة عبر الأيام والليالي التي يعرفان كيف يجعلانها لذيذة ومتناهية الامتداد..ثم توالت شبيبة المدينة من الجمعويين والمثقفين والمناضلين كل يلغو بما يعنّ له بصدد هذا الرجل صديق العالم..
كنت من الأواخر الذين أخذوا الكلمة لأسرد بعض مناقب هذا المواطن الذي تعرفت عليه وأنا يافع أرتاد الجمعيات ودور الثقافة وأنتظم في المخيمات الصيفية، حيث كان لبوعزة دائما حضوره المميز ومساهمته التي لا تمر مرور الكرام..وكنا نتعلم منه دروسا في المواظبة والانتظام ومزايا الالتزام لإسعاد الفئات المحرومة من الثقافة والمقصية من دائرة الضوء..ثم تحدث عنه العلام باعتباره أحد الوجوه الصديقة لاتحاد كتاب المغرب والمثابرة على حضور أنشطته ومؤتمراته أينما انعقدت وفي أية بقعة كانت..قبل أن ينهي حديثه مازحا بالقول إن بوعزة يستحق بطاقة الاتحاد أكثر من عدد من أعضائه الفعليين..ضحكنا للمزحة وقلنا ونحن نربت على كتفه: ينبغي أن تأتي إلى الرباط في أقرب الآجال لتحصل على بطاقتك يا بوعزة!
بعد ذلك عتب علينا كثيرا لأننا غادرنا دون أن نشارك في الحفل الحميمي الذي أقامه للأصدقاء بهذه المناسبة السعيدة..فقد كان من شيم بوعزة الثابتة أن يدعو أحبابه للاحتفال معه بين الفينة والأخرى حتى دون أن تكون هناك مناسبة..كما تعوّد أن يتصل بالهاتف بين الفينة والأخرى ليسأل عن أحوال أصدقائه الذين تكون المشاغل قد أبعدتهم أو ألهتم عن التواصل معه..كان يفعل ذلك في لحظات انتشائه ليلا أو نهارا وهو يجوب البلاد شرقا وغربا..بين المحمدية والصويرة وطنجة ومراكش..إلخ
ثم ها هو الرجل يرحل عنا فجأة بصمت، متسللا في العتمة كما كان أسلوبه الدائم دون إثارة ضجيج، وكأنما يعتذر عن مقامه بيننا لفترة قصيرة تكاد تكون مثل البرق الخلب..ترك حومته ومقهاه للأغراب وسافر في رحلته الأخيرة التي لن يعود منها أبدا..فوداعا بوعزة..يا صديق العالم..
وداعا بوعزة المقلاشي: صديق العالم
الكاتب : حسن بحراوي
بتاريخ : 05/05/2017