ورش إصلاح المنظومة التربوية أولوية وطنية ثانية بعد الوحدة الترابية

إن حصيلة ربع قرن من السياسات والإصلاحات التربوية التي اعتمدها المغرب منذ مطلع الألفية الثالثة تشير إلى أن المدرسة المغربية حققت مكتسبات يتعين توطيدها وتطويرها، لاسيما في مجال تحديث الإطار القانوني والمؤسساتي، والتقدم الكمي في تعميم التمدرس، وتقليص الهوة بين المناطق الحضرية والقروية…

بدءا، لابد من التأكيد، ونحن نعيش أجواء الحدث الوطني الكبير، عيد العرش المجيد، الذي يجسد التلاحم القوي بين العرش والشعب، أن المجتمع المغربي يعرف تحولات عميقة، مست جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والتربوية.
وارتباطا بذلك، ظلت فعالية المدرسة المغربية، ومردودية النظام التربوي، منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، عرش أسلافه الميامين، من بين أهم الانشغالات التي ما فتئ المغرب الحديث يوليها أولوية خاصة. وقد جسد ورش إصلاح النظام التربوي الوطني، إرادة ملكية حازمة، تضع المدرسة في صلب المشروع المجتمعي لبلادنا، وترمي إلى إرساء نظام تعليمي منصف وفعال وذي جودة، خدمة للتنمية المستدامة لبلادنا.
في هذا السياق، شكل أول خطاب ملكي للعرش في 30 يوليوز 1999، والخطاب السامي في افتتاح الدورة التشريعية الثالثة في 08 أكتوبر 1999، وسائر الخطب الملكية السامية، التي تطرقت إلى إصلاح المنظومة التربوية، عناصر أساسية موجِّهة للسياسات العمومية، والإصلاحات المتعلقة بالتربية والتكوين والبحث العلمي، في أفق بناء نموذج المواطن والمجتمع الذي تطمح إليه بلادنا.
وتأسيسا على ذلك، أعلن جلالته في خطاب العرش لسنة 2000 عن قراره السامي بإعلان العشرية 2001-2010 عشرية خاصة بالتربية والتكوين وثاني أولوية وطنية بعد الوحدة الترابية، سعيا لتجديد المدرسة المغربية وإعمال إصلاح شامل للمنظومة التربوية بمختلف مكوناتها، وفق التوجهات التي رسمها الميثاق الوطني للتربية والتكوين، باعتباره وثيقة مرجعية توافقية للإصلاح، جسدت رغبة بلادنا في تكوين نشء منتج، قادر على رفع تحديات الحاضر والمستقبل، ومتشبث بقيمه وثوابته ومقدساته.
وقد أعلن جلالته، ضمن هذا السياق، في خطاب العرش لسنة 2004، عن عزمه تنصيب المجلس الأعلى للتعليم، من أجل الاضطلاع بالمهام المنوطة به، بوصفه قوة اقتراحية وتقويمية قارة ومتجردة للإصلاح العميق والمستمر لمنظومة التعليم. وفي سنة 2006، تمت إعادة تنظيم المجلس، بتوسيع اختصاصاته، وملاءمة تركيبته التعددية مع المستجدات، وتمكينه من الاستقلال الإداري والمالي الكفيلين بتأهيله للقيام بأدواره على أكمل وجه.

إرادة ملكية حازمة ورؤية استراتيجية متجددة
لإصلاح التعليم

دشن المغرب بالمصادقة على مشروع الدستور الذي عرضه جلالة الملك على الاستفتاء الشعبي، يوم فاتح يوليوز 2011، محطة فارقة في تطوره المؤسساتي والسياسي الحديث الذي كرس الخيارات المجتمعية الكبرى، ولاسيما تلك المتعلقة باستكمال بناء دولة مغربية ديمقراطية ذات مؤسسات عصرية، يسودها الحق والقانون، والإنصاف وتكافؤ الفرص.
وعلاقة بالتربية والتكوين، أقر الدستور الحق في التربية، والحصول على تعليم عصري ميسر الولوج، وذي جودة، وبَوَّأ المجلس مكانة غير مسبوقة بتنصيصه في الفصل 168 على إحداث مجلس أعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، كهيئة استشارية مهمتها إبداء الرأي حول كل السياسات والقضايا التي تهم التربية والتكوين والبحث العلمي والمساهمة في تقييم السياسات والبرامج العمومية في هذا المجال، الأمر الذي زاد من سقف الرهانات المجتمعية والتحديات التي يتعين على المدرسة المغربية رفعها.
وفي سياق تقوى فيه خطاب الأزمة، كان من الضروري الوقوف على ما تحقق من إنجازات ومكتسبات، والتعرف على الصعوبات والاختلالات التي مازالت قائمة وعلى الرهانات والتحديات التي تستدعي مقاربة جديدة أكثر فعالية ونجاعة.
وقد ساعد التشخيص المنجز خلال مرحلة تقييم عشرية التربية والتكوين، على استشراف مستقبل المدرسة المغربية الجديدة، من خلال ثلاثة خيارات أساسية، ترسم معالم المدرسة التي يتطلع إليها المغرب، والمتمثلة في مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص، والجودة، والارتقاء الفردي، والمجتمعي، باعتبارها جميعا أسسا ناظمة، وغايات مثلى للتربية والتكوين والبحث العلمي تستهدف التغيير المنشود للمدرسة المغربية، ولاسيما الانتقال بالتربية والتكوين من منطق التلقين والشحن إلى منطق التعلم وتنمية الحس النقدي وبناء المشروع الشخصي، واكتساب اللغات والمعارف والكفايات، والقيم والتكنولوجيات الرقمية، والرفع المستمر من المردودية الداخلية والخارجية للمدرسة المغربية.
وحددت الرؤية الاستراتيجية 2015-2030، والقانون الإطار المنبثق عنها، الذي أعدته الحكومة تنفيذا للتعليمات الملكية السامية، السبل والمستلزمات الضرورية لكسب هذه الرهانات في مختلف مكونات المنظومة الوطنية للتربية والتكوين والبحث العلمي، بمقاربة تقوم على توطيد المكتسبات وتطويرها، وإحداث القطائع الضرورية، وابتكار حلول جديدة، والمزاوجة بين الطموح والواقعية، وبين تحديد الأولويات والتدرج في التنفيذ.

مكتسبات هامة.. صعوبات مزمنة، وتحديات جديدة

إن حصيلة ربع قرن من السياسات والإصلاحات التربوية التي اعتمدها المغرب منذ مطلع الألفية الثالثة تشير إلى أن المدرسة المغربية حققت مكتسبات يتعين توطيدها وتطويرها، لاسيما في مجال تحديث الإطار القانوني والمؤسساتي، والتقدم الكمي في تعميم التمدرس، وتقليص الهوة بين المناطق الحضرية والقروية، وإقامة الهياكل المؤسساتية للحكامة اللاممركزة بتطوير تجربة الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، وتخويل الاستقلالية للجامعة، ومراجعة المناهج والبرامج الدراسية، وإدراج تدريس الأمازيغية، كما تمكنت من إرساء هندسة بيداغوجية جديدة في التعليم العالي، وإعادة هندسة شعب التكوين المهني وتخصصاته والتوسيع التدريجي لطاقته الاستيعابية. كما عرف تدبير الموارد البشرية تحولا ملموسا في ما يتعلق بمعالجة وتصفية الملفات العالقة وبالخصوص ملف النظام الأساسي الخاص بموظفي قطاع التربية الوطنية الذي يعتبر خطوة ايجابية للارتقاء بمهن التعليم.
وهكذا سجل معدل الالتحاق الخاص بالأطفال الذين تتراوح أعمارهم من 6 سنوات و11 عاما تحسنا كبيرا، حيث ارتفع هذا المعدل عند الإناث من %80,6 في عام 2000 إلى 100% في عام 2020، وعند الذكور من 88,4% إلى 100% على الصعيد الوطني. كما زادت نسبة التمدرس في صفوف الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و14 عاما عند الإناث من %52,7 في عام 2000 إلى 92% في عام 2020 وعند الذكور من %67.6 إلى %96. كما تجاوز معدل الولوج إلى التعليم العالي 46 في المئة سنة 2023.
غير أن واقع هذه المدرسة اليوم، يبين أنها لا تزال تعاني من بعض الصعوبات المزمنة، كشفت عنها التقارير الدولية أو التقارير الذي أعدتها الهيئة الوطنية للتقييم لدى المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وبالخصوص في مجالات جودة التعلمات ومكافحة الهدر المدرسي والجامعي، علاوة على ذلك يعاني البحث العلمي من ضعف التنسيق ونقص في الموارد.
ترتبط هذه التحديات في عمومها بضعف تماسك وانسجام مكونات المنظومة التربوية، وبمستوى نجاعتها ومردوديتها الداخلية والخارجية، وبمحدودية مواكبتها لمستجدات البحث العلمي ولتحولات محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي. وهو ما يضعنا جميعا أمام مسؤولية جسيمة يجب علينا تحملها بوعي وجدية وكفاءة بغية تحسين الأداء الفعال للنظام التربوي والتطبيق الناجح للإصلاح.

المجلس الأعلى للتربية
والتكوين في قلب التحول الدال
في المنظومة التربوية

في خضم التطورات النوعية التي عرفتها المنظومة التربوية ببلادنا منذ مطلع الألفية الثالثة، بصم المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي على حضور نوعي في النسق التربوي جعل منه مؤسسة مرجعية ومؤثرة في مسار الإصلاح التربوي، وقوة اقتراحية واستباقية واستشرافية لها أثر في تنوير السياسات العمومية، والمساهمة في التعبئة المجتمعية حول المدرسة المغربية الجديدة.
فقد عكف المجلس، منذ تنصيبه، على إطلاق دينامية تفاعلية مع القائمين على العملية التربوية، والفاعلين في المجتمع التربوي، لتبادل الرأي، والمعاينة الميدانية لمجريات النظام التربوي الوطني، وانتهج مقاربة نوعية تتوخى تعميق التحليل والتقييم لمختلف مفاصل النظام التربوي الوطني ومراحله وأطواره، اعتمادا على تقييمات منجزة وفق المعايير العلمية المعمول بها دوليا في هذا المجال.
وتنوعت إنتاجات المجلس لتشمل الآراء الاستشارية والاقتراحية، والتقارير، والدراسات والأبحاث في مختلف قضايا التربية والتكوين والبحث العلمي، فضلا عن التقارير التقييمية للسياسات العمومية في مجال التربية والتكوين، والتقارير السنوية.
في هذا الإطار، أنجز المجلس في السنوات الماضية، عبر الهيئة الوطنية للتقييم المحدثة لديه، عدة تقييمات شمولية، وقطاعية، وموضوعاتية للسياسات والبرامج العمومية في ميادين التربية والتعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر والتكوين المهني، بغية تقدير نجاعتها البيداغوجية والمالية، بالنظر إلى الأهداف المرسومة لها. وتشكل هذه الأعمال التقييمية سندا ومرجعا علميا لأعمال المجلس الاقتراحية والاستشارية التي تطرح مجموعة من الاقتراحات والتوصيات لتجاوز مكامن الخلل المرصودة، بغاية مسايرة التطورات التي يعرفها النظام التربوي ببلادنا، واستخلاص الدروس من أجل تدقيق مخططات الإصلاح، وتفعيلها، وإرساء المدرسة المغربية الجديدة القادرة على كسب رهانات التنمية والتحديث، وعلى التكيف باستمرار مع التحولات الوطنية والدولية.
إن استشراف معالم مدرسة المستقبل كان ولا يزال يشكل موضوعا هاما للتفكير الجماعي ضمن انشغالات المجلس، إيمانا منه بأن المدرسة المغربية الجديدة ينبغي أن تكون، بالضرورة، مدرسة متجددة، مواكبة لعصرها.
وفي اعتقادنا، فإن مدرسة المستقبل ستكون مختلفة جذريا عن مدرسة اليوم، وسوف تصبح مجالا للتركيز على التربية أكثر من التعليم، مع اعتماد برامج تربوية قوامها اكتساب المتعلمين للمهارات اللازمة، وتكريس القيم الوطنية الاجتماعية والحقوقية، وتعزيز قيم المواطنة العالمية والتواصل وتدبير الاختلاف والعيش المشترك، وترسيخ أنسنة التعليم، كما أنها سوف تلتزم ببيداغوجيا رقمية تولي للتكنولوجيا والموارد الرقمية أهمية أكبر في التعليم وفي التواصل مع المتعلمين، في استحضار للإمكانيات التي يتيحها التعليم الافتراضي، والتقويم عن بعد، وغير ذلك من الآليات التي ستشكل إحدى أبرز مقومات المدرسة الذكية. في المقابل، يُتوقع أن يستمر التراجع التدريجي للنموذج البيداغوجي والتنظيمي للمدرسة التقليدية، لصالح نموذج بيداغوجي رقمي جديد تكتسح فيه التكنولوجيا الفضاءات المدرسية بشكل كبير، وتصبح فيه الأداة الأساس التي تتمحور حولها أنشطة التعليم والتعلم.
وإن الإرادة الحازمة لجلالة الملك، المتجاوبة دوما مع الرغبة الأكيدة لمختلف مكونات الأمة المغربية في تحسين جودة المنظومة التربوية، يشكل لنا فرصة تاريخية ونوعية لإنجاح هذا الورش الوطني المهيكل، الذي مافتئ جلالته يؤكد أنه من أهم الرهانات التي يتعين على بلادنا كسبها، باعتبارها رافعة حاسمة لتعزيز تموقع المملكة المغربية في مجتمع المعرفة والتنمية المستدامة.

(*) رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي


الكاتب : بقلم الأستاذ الدكتور الحبيب المالكي (*)

  

بتاريخ : 02/08/2024