تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..
لقد تزود الباحث بأدوات منهجية مكنته من مساءلة الإنتاج التاريخي الكولونيالي حول اليهود لاستخلاص نواقصه وملء الثغرات التي تعتريه. وبفضل مقاربته المنهجية للموضوع تمكن من تحليل نتائجها وإعادة تركيبها من جديد؛ خاصة إذا علمنا أن الأمر يتعلق بموضوع حساس ومثير للجدل. كما انفتح الباحث على العلوم الاجتماعية خاصة الانتربولوجيا والسوسيولوجيا، مع تسجيل قصور في اعتماد المنهج «الغيرتزي»، تاركا حدودا إبيستمولوجية بينها وبين المنهج التاريخي الموظف، وما تقتضيه أدوات عمل المؤرخ من الالتزام بمنهج تاريخي رصين. ويمكن ملامسة ذلك في تصفح أوراق الفصل الرابع الخاص بالهوية اليهودية، والفصلين الخامس والسابع اللذين يتمحوران حول أزمة اليهود أمام هول الصدمة التي فجرتها الحماية، وموقفهم من الحداثة خاصة عندما اعتمدوا اللسان الفرنسي في التربية والتكوين، وتأثروا بالغرب في الملبس والمأكل. واجهت عبد الله لغمائد عدة صعوبات منهجية لم يفصح عنها صراحة، لكن يمكن استنتاجها من مضامين الدراسة والنتائج التي توصل إليها. يمكن الحديث مثلا عن استعارة الباحث للزمن الطويل وحمولته المفاهيمية للتعامل مع تاريخ الأقليات كما هو معمول به في مدرسة فرنناد بروديل، ومدى إمكانية أجرأته/ تطبيقه على موضوع يكتسي خصوصيات في مجال محدد هو سوس. وقد مكنه ذلك من تقريب الأحداث التاريخية و تتبع التحولات البنيوية التي طرأت على الحياة الاقتصادية والاجتماعية لليهود. وبالموازاة مع ذلك، نجح في استنتاج التغيرات التي واكبتها على مستوى الذهنيات والسلوك. كما أن اعتماده لمنهجية التاريخ المقارن طرحت بالنسبة إليه صعوبات أخرى مرتبطة بجمع مادة مصدرية شافية تمكنه من التنقل بكل أريحية عبر الاصقاع التي عمرها شتات اليهود. فألزمه ذلك الاشتغال على الموضوع من جانبين: جانب يهم اليهود المغاربة، وجانب يصل حد استقراء تاريخهم في البلدان العربية و الأوربية. لقد ظل الباحث محايدا ومتقيدا بالموضوعية العلمية وهو يتناول موضوعا يعالج في ظرفية التاريخ الساخن. وهناك صعوبات منهجية أخرى مرتبطة بالجهد المضني الذي كلف الباحث للانتقال من المحلي إلى الشمولي من خلال ربط سوس بمحيطها العام الوطني والدولي، وذلك بالجمع بين العمل المونوغرافي والتاريخ العام.
خلاصة القول لقد استمتعنا كثيرا ونحن نقدم هذه القراءة المتواضعة لكتاب «يهود منطقة سوس» لباحث مغربي تمكن من آليات إنتاج المعرفة التاريخية بشكل ألزمه، ما أمكن، الحياد والموضوعية، متزودا بمصادر دسمة ومقاربة منهجية متنوعة، فهو يمثل من وجهة نظر اكاديمية استمرار التحول الجذري على مستوى البحث التاريخي المونوغرافي منهجا وموضوعا. ولعل أهمية هذه الدراسة تكمن في سبق صاحبها لمعالجة موضوع كان إلى أمد قريب طي الكتمان والتهميش وحكرا على أقلام عبرية وأجنبية بالخصوص. وقد قدمنا هذه القراءة باستحضار أعمال باحثين مغاربة وأجانب لايقلون أهمية عن عبد الله لغمائد بل أن بعضهم كان موجها ومؤطرا له، تطلب منا ذلك الرجوع الى مؤلفاتهم وتضمين أفكارها في هذه الورقة المتواضعة. ولايسعنا إلا أن ننوه بهذا العمل الجاد الذي يشكل إضافة نوعية إلى الخزانة المغربية والعربية مجمل البحوث التاريخية خاصة وان المكتبة المغربية تعرف شحا في مواضيع التاريخ الاجتماعي. ومما لاشك فيه أن هذا الكتاب يطرح مواضيع أخرى يمكن البحث فيها من منظور انتربولوجي أو تاريخي لاسيما وأن صاحبها لم يركز عليها وتركها موضوعا لبحوث لاحقة. ولعل المشتغلين في الحقل التاريخي في منطقة سوس يجمعون اليوم على أن مقاربة أي موضوع يتعلق بالتاريخ الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي –الذهني؛ لابد أن يستحضر خصوصيات سوس التي ميزته عن باقي جهات المغرب؛ وفي مقدمتها مسألة الأحلاف، وأخص بالذكر هنا حلف تاكوزولت وحلف تحكات اللذين رسما معالم سياسة المخزن في سوس. فالأول مناوئ له والثاني متحالف معه، وداخل هذه العلاقات الحلفية/ التحالفية يمكن قراءة أنساق ثقافية واجتماعية جديدة تساعد على فهم خصوصيات يهود سوس وانفرادهم بصفات ميزتهم عن إخوانهم في مناطق أخرى. كما أن الوثائق الإخوانية يمكن أن تجيب عن إشكاليات ظلت محدودة في الدراسة؛ من قبيل واقعة بوحلايس أو تهجير اليهود، ومن جهة أخرى فالدراسة لم تشمل بالرعاية الرصينة التاريخ الثقافي ليهود سوس خاصة الجانب الذي يهم تصوفهم وزهدهم. كما أن العمل الأدبي ظل باهتا في هذه الدراسة. فثقافة اليهود لا يمكن أن تقرأ إلا من خلال إنتاجهم الفكري والأدبي من دون وسيط، وهذا يستدعي التمكن من اللسان العبري لأن الترجميات تعترضها مقولات «الحسناوات الخائنات». وفي النهاية فإن هذا العمل المتميز يستحق الترجمة الى اللغات الشرقية والغربية حتى يعرف العالم أن اليهود الذين يقررون اليوم في السياسات الشرق –أوسطية عاشوا في يوم من الأيام إلى جانب أبناء عمومتهم بعيدا عن التناحر والحقد والعداء، وأن الثقافة التي روجت لها الصهيونية العالمية منذ عقد المؤتمر الصهيوني الأول بزعامة هيرتزل عام 1889 هي سبب فتور العلاقات واحتدام الصراعات.