تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..
لاينفرد مايير مقنين بصفة التاجر والوسيط بين المخزن وأوربا فقد سبق أن شغل هذه المناصب يهودا من قبله وقد إقتفى أثرهم المؤرخ نيكولا السرفاتي في مؤلف «les courtisans juifs des sultans marocains» والجدير بالذكر أن العديد من الدراسات تناولت هذا الموضوع باعتماد مواد مصدرية تقل أهمية عن المادة المصدرية في هذا الكتاب؛ فمؤرخوا القرن التاسع عشر ركزوا على السماسرة اليهود خلال عصر القوة ليهود اسبانيا، كما أنه في العهود القديمة تم الترويج لمرويات شفوية تفيد بظاهرة الصعود السريع ليهود البلاط إلى مواقع السلطة إلى درجة أن أحد المؤرخين وهو جان س. جيربير وصف تاريخهم ب» تاريخ الشخصيات القوية التواقة إلى التربع على عرش المجتمع البورجوازي» كما وصف البعض يهود البلاط بكونهم « نجحوا في المهام الديبلوماسية الموكولة إليهم، وأنهم رجالات علم وفاعلي خير لصالح الطوائف اليهودية». ورغم دهائهم ونجاحهم فإنهم كانوا عرضة لعدة مخاطر ذلك أن المخزن كان يفضل توظيف اليهود لخدمة أجندة سياسية وفي نفس الوقت للحفاظ على سمعة دين الأغلبية تطبيقا للقاعدة الفقهية الضرورات تبيح المحضورات هذا بالاضافة إلى أن اليهود كانوا يتعرضوا لمحن كثيرة في حالة انكسار شوكة المخزن كما حدث في بعض فترات حكم الدولة المرينية ( من ق 13 إلى القرن 15) كما توضح الكاتبة مايا شاتز ميلير، أو في الحالة التي يتقرب فيها المخزن إلى أهل الحل والعقد لكسب ودهم واستمالتهم.
لعب يهود البلاط دورا محوريا في دعم الدولة المغربية سيما أن الجهاز المخزني كان يعول عليهم في الأمور التجارية عبر مرسى الصويرة إلا أن دورهم تقلص بعد التغلغل الأجنبي الذي أضعف الدولة ونتيجة لذلك تحولت مجموعة من البيوتات اليهودية المغربية إلى أسر محمية من طرف الأجانب بمعنى أنهم تحولوا من ذميين للدولة الاسلامية إلى ذميين للدول الأوربية؛ وحسب صاحب الكتاب فإن مايير مقنين عاش خلال هذه الفترة الانتقالية وقد كان من أكبر رجالات البلاط اليهود في تاريخ المغرب، ولعل التغيير الحاصل في ميزان القوى في العلاقات بين المغرب وأوربا لتعكس بشكل صريح قصة حياته. كما يمكن الانتقال من هذه الشخصية اليهودية لفهم موضوع العلاقات بين المغاربة المسلمين وجيرانهم اليهود فالتاريخ يشهد كيف تسقط عائلة يهودية وازنة مباشرة بعد أفول نجم أحد أفرادها من رجالات البلاط بمعنى أن يهود البلاط مرتبطين بشكل وثيق بتاريخ الطائفة اليهودية.
يسلط الكتاب الضوء على مفهوم التعايش بين المغاربة اليهود وجيرانهم المسلمين بل يحاول صاحبه أن يقر على أن التعايش المصطلح المستعار من حقل البيولوجيا لم يتحقق إلا في العالم الاسلامي ورغم أن المفهوم تم تداوله في أوساط الأحبار اليهود الجرمان ودحضته المحرقة النازية إلا أنه ظل متداولا في عدة مناطق من العالم منها المغرب؛ إنه التعايش الخلاق حسب تعبير شلومو دوف كوايتين هذا الأخير توصل إلى هذا المفهوم انطلاقا من الذخيرة الوثائقية التي حصل عليها كنيزة (مخزن للوثائق المرمية تحمل اسم الله ولا يتم حرقها حسب تقليد يهودي) القاهرة القديمة، وانطلاقا من هذه الوثائق سيتوصل كوانتين إلى أن التعايش الخلاق استمر على الأقل إلى حدود سنة 1300م كما تفيد هذه الوثائق التي تؤرخ إلى حدود هذه السنة. أما برنار لويس فهو يرجح أن أواخر العصر الوسيط تزامنت مع الانحطاط الشديد ليهود العالم الاسلامي. وبالنسبة لللمؤرخ المغربي حاييم الزعفراني فيعود له الفضل في تمهيد الطريق للباحثين في تاريخ وثقافة المغاربة اليهود؛ فعصر المجد بالنسبة ليهود المغرب، حسب هذا المؤرخ، حدث خلال الفترة الذهبية في الأندلس وماتلاها يشكل عصرا للانحطاط وهي الفترة التي ركز عليها في جل أعماله، ومن خلالها دحض مقولات كوايتين الذي يرى أن التكافل بين المسلمين واليهود انتهى بنهاية العصور الوسطى بيد أن التكافل حسب حاييم الزعفراني ظل مستمرا بين المسلمين وجيرانهم المغاربة اليهود كما توضحه الحياة اليومية والثقافة الشعبية حيث لاوجود للحدود الدينية؛ فاليهودي بهذا المعنى لايتجزأ من المحيط الاجتماعي والثقافي واللغوي للغرب الاسلامي وهي الصورة التي ستتلطخ مع بداية القرن العشرين عندما تم الترويج لمقولة الشعب اليهودي المضطهد في ربوع العالم الاسلامي على غرار إخوانهم الأشكناز الذين تعرضوا لمحارق ومذابح في ربوع أوربا الشرقية وروسيا والمانيا وهي مقولات مردودة على أصحابها حسب صاحب الكتاب.