تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..
يوم حالف الطاعون حظ مولاي سليمان
من حسن طالع السلطان المولى سليمان أن كان لوباء الطاعون دورا حاسما في القضاء على الخصوم المنافسين له على الحكم؛ وفي الأدبيات التاريخية يعرف هذا الوباء ب «الطاعون الكبير» الذي اكتسح المغرب مابين سنتي 1790 و1800؛ وفي الوثائق العبرية يميز اليهود بين الطاعون الكبير والطاعون الصغير. وقد شبه الأجانب الوباء الذي ضرب المغرب بالطاعون الأسود الذي هز أرجاء أوربا خلال القرن الرابع عشر الميلادي. ولاتوجد تقديرات حول عدد ضحايا الطاعون الكبيرلكن هناك إجماع حسب مرويات الرحالة الأجانب حيث قدر عدد الضحايا بربع ساكنة المغرب. وقد جاء على لسان الضعيف الرباطي المؤرخ الذي عاين الجائحة أنه «مات من الخلق ما لايحصي عددهم إلا الله». ويعتقد أن جيش السلطان مولاي سليمان لعب دورا أساسيا في تفشي الوباء بفعل تحركاته لردع المعارضة الداخلية وتأديب القبائل الخارجة عن الطاعة؛ فانتقاله، مثلا، من مدينة فاس الموبوءة في اتجاء الجنوب عبر السهول الأطلنطية قد ساهم في انتشار الوباء على نطاق واسع مما حدا بالقنصليات الأجنبية مطالبتها عامل مدينة الصويرة ليسارع الزمن من أجل الحيلولة دون تفشي الوباء عن طريق إغلاق أبواب المدينة، ومنع الخروج و الدخول من وإليها، غير أنه لم يكن باستطاعته تطبيق النصيحة إلا بأمر سلطاني، وخلال هذه الأثناء أقدمت جحافل العسكر المغربي على التخييم بالمقربة من مدينة الصويرة وهو ماجعل الوباء يتفشى على نطاق أوسع؛ إذ بلغ عدد الموتى أزيد من مائة شخص في اليوم الواحد، وارتفع مجموع الضحيا في الصويرة لوحدها، حسب ما يستفاد من تقييد التاجر البريطاني «جيمس كراي جاكسون»، حوالي 4500ضحية؛ ففي قرية الديبات لوحدها، والتي تضم 113 شخصا، أودى الطاعون ب مائة منهم.
الطاعون الجارف يحدث نزيفا ديموغرافيا في جهاز المخزن:
أحدث الطاعون الكبير نزيفا ديموغرافيا في جهاز المخزن مما جعل استمرارية السلطان الحاكم على المحك بفعل فقدان عدد غفير من حاشيته ورجالاته، فقد هلك إلى جانب علية القوم أغلب عمال الأقاليم، وباشواتها، وقوادها؛ فالسلطان مولاي سليمان فقد أربعة من إخوته منهم المنافسين له على الحكم، أما فاس ومكناس فقد فقدتا جل علمائها من من جهابذة العلم الظاهر والباطن. وبفقدان هؤلاء يفقد المغرب وثائق عائلية ثمينة تؤرخ لهذه الفترة وتنفض الغبار عنها. لقد ساهمت الجائحة « الطاعون» في خروج الرعية عن طاعة السلطان وعدم امتثال رجالات الدولة لأوامره فعامل الصويرة، مثلا، استنجد بجيش أكادير لحماية المدينة من الفوضى وهو ماعبر عنه القنصل الفرنسي بالصويرة قائلا «إن الأضرار التي لحقت بالمغاربة بلغت درجات يخشى معها، أنه في حالة قضاء الوباء على عدد من حكامهم، فقد تسود الفوضى وقتئذ في كل مكان، ونصبح عرضة للنهب من قبل الجيش». وقد أدى تطويق مدينة الصويرة من خلال منع الدخول إليها سواء من طرف المسلمين أو اليهود الوافدين إلى ارتفاع الموتى خارج أسوارها.
فرار اليهود إلى الخارج للنجاة بأرواحهم من الطاعون الجارف:
عكس المغاربة المسلمون كان بإمكان اليهود المغاربة، فقراء وأغنياء، الهجرة إلى الخارج لانقاذ أرواحهم من هول الطاعون الجارف، فمن خلال الشبكة التجارية الدولية التي يوجد مقرها في ليفورنو الإيطالية، والعلاقات بين اليهود السفرد في حوض البحر المتوسط، تمكن عدد غفير من الهجرة إلى ملاذ آمن من الوباء. ويعتبر المركز التجاري السالف الذكر مكان آمن لليهود المغاربة نظرا لسمعته التي تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي عندما شجع دوق توسكانيا الأجانب بمن فيهم اليهود على الاستقرار بهذا المركز مقابل تسهيلات وإغراءات تجارية واقتصادية حصل بموجبها يهود الأندلس على حماية في ظل أزمة محاكم التفتيش التي تعرضوا لها بعد سقوط مملكة بني الأحمر (1492م) وقد تزايد عدد يهود ليفورنو بشكل ملفت للنظر، و ربطوا علاقات مثينة مع اليهود السفرد بهولندة. وبفعل الحماية التي تمتع بها يهود ليفورنو؛ نشطت الحركة الثقافية والأدبية العبرية حيث مولت مطابع هذه المدينة طبع ونسخ العديد من المؤلفات الواردة من المغرب والمشرق في شتى مشارب المعرفة. لقد تحولت مدينة ليفورنو إلى مركز إشعاعي سفردي، وعن طريق إجراء البالوتازيوني (ballottazione) تمتع اليهود المقيمين بهذا المرسى بحماية لأرواحهم، وممتلكاتهم، وديونهم. ومن خلال هويتهم التوسكانية كان بإمكان اليهود الاستقرار في جميع أرجاء حوض المتوسط دون التنازل عن هويتهم وثقافتهم المتمثلة في اللغة الإيطالية والزي الأوربي الغربي . وقد أسس هؤلاء عدة مراكز تجارية ومستوطنات في عدة حواضر منها؛ إزمير، وحلب، والاسكندرية، والقاهرة ومدن تطوان و الصويرة وأسفي. وفي وقت متقدم نال هؤلاء اليهود حماية فرنسية اعتمدتها فرنسا فيما بعد كورقة ضغط في ظل احتدام التنافس الامبريالي، إذ كان بامكانها اعتماد اليهود لخدمة مصالحها وتنفيد مشروعها الامبريالي في شمال افريقيا.
تزايد عدد اليهود الليفورنويون في المغرب؛ فعند نهاية القرن الثامن العشراستقرت بالمغرب العديد من الأسر اليهودية ذات الأصول الليفورونية ومنهم أبو درهم، و بن عطار، ودي لامار ، وأقريش، ودي ليفاتني حيث اقتنت هذه الأسر عقارات كثيرة وربطت علاقات رفيعة المستوى مع إخوانهم في جميع أرجاء المتوسط؛ هكذا تحولت ليفورنو إلى شريك تجاري مهم للمغرب حيث نشطت العلاقات التجارية من الصويرة إلى ليفورنو وأصبحت الصويرة في سبعينات القرن الثامن عشر مركزا لليهود المغاربة من أصول ليفورنية.