تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..
الخروج عن بروتوكول القصر السلطاني ينجم عنه تعنيف اليهود وأصداء الحادث تصل مؤتمر مدريد:
لقد امتثل السلطان الحسن الأول لما أملته الاتفاقيات التي وقعها سلفه، وأهمها الاتفاقية الإطار للحماية القنصلية ويتعلق الأمر بالمعاهدة المغربية البريطانية (1856) ومقررات مؤتمر مدريد؛ وبخاصة المادة المتعلقة بالحماية القنصلية، وحتى لا يسيء الأجانب الظن بسياسة هذا السلطان فقد كتب إلى الأجانب على يد وزيره في الخارجية يأمره فيها بإخبار ممثلي الدول الأوربية في طنجة بطغيان اليهود المغاربة، وعن السياق العام الذي كتبت فيه هذه المراسلة يعود بنا إلى تتبع الأجواء التي خاض فيها الوفد المغربي في مؤتمر مدريد المفاوضات مع نظرائهم الأجانب. والملاحظ أن المؤتمر أقر بضرورة حفظ حرية التدين بالمغرب نظرا للأخبار التي روجتها «الحركة اليهودية العالمية» حول سوء معاملة اليهود المغاربة، والواقع أن الذميين المحميين تجاوزوا ما تسمح به الحماية وتجاهلوا أنهم رعايا السلطان، إذ ينطبق عليهم ما ينطبق على جيرانهم المسلمين، وقد نبه المولى الحسن، منطلقا من مرجعية تاريخية، أن العديد من الدول الأجنبية التي تتطاول على المغرب اليوم سبق لها أن عانت الأمرَّين مع اليهود، بل إن بعضها رحَّلتهم أو قبلتهم بشروط قاسية منوها إلى أن وضعية اليهود في المغرب اليوم هي في أحسن حال عما كانت عليه في الماضي.
لقد وضع المخزن بروتوكولا شدد على ضرورة اتباعه في التعامل مع البلاط ورجالاته، وقد كان اليهود المغاربة على علم تام بتفاصيله التي لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد سيء النية. ولعل هذا ما حدث ليهوديٍّ كان محميا من قِبَلِ دولة إيطاليا وحسب وثيقة مخزنية أصيلة تناولت تدويل قضية تعنيف يهودي، وقد تم تناولها على هامش أحد الاجتماعات التي سبقت مؤتمر مدريد، وحسب ذات الوثيقة فإن ممثل الدولة الإيطالية استشاط غضبا بعد تعنيف اليهودي، واقترح أن يتم تناول هذه القضية على هامش الاجتماع الرسمي مع وفود البعثات الديبلوماسية، وفي يوم (18 شتنبر 1880)، وهو تاريخ الاجتماع الذي كان يديره ممثل إسبانيا السيد «ديوسدادو»، أخذ ممثل إيطاليا الكلمة وعبر عن أسفه على البطء الحاصل في مصادقة السلطان على مقررات مؤتمر مدريد، ليخلص بعد ذلك لقضية الذمي المعنف «يوسف عمران» الذي أهين في القصر السلطاني بمدينة فاس؛ وفيما يلي جزء مما ورد في المراسلة:»بأمر من الوزير الصفار تعرض يهوديان للسب، وخُلعت نعالهما من أرجلهما بعنف ولَكْمٍ ورفس، وكان أحد اليهوديين محميا من إيطاليا أَوْفَدْتُه شخصيا إلى فاس لتسليم رسالة رسمية إلى الصدر الأعظم، غير أن هذا الأخير معتبرا كل ما وقع بغير كاف رد باسم صاحب جلالة السلطان على شكوى المحمي الإيطالي عمار يوسف بتحذيره من مغبة الدخول مرة أخرى إلى ساحة المِشْوَرْ مُنْتعلا، وإن فعل سيعاقب هو وبَوَّابُ القصر» . ثم يضيف المؤتمرون أن اليهود اليوم لم يعودوا خائفين من عوام المغاربة بل من جبروت وزراء السلطان وحاشيته على اعتبار أن الأمر حُسِم وفي اجتماعات رسمية سبقت مؤتمر مدريد فلماذا هذا التراجع؟
على الرغم من تذكير ممثل دولة النمسا بأن لكل دولة بروتوكولها الخاص، وأن ما فعله هذا الذمي يخرج عما هو متعارف عليه وجرى به العمل في القصور السلطانية، وبالتالي عدم احترامه للبروتوكول، وذكَّرهم أن الأوروبيين يخلعون قبعاتهم إذا دخلوا على رؤسائهم أو كانوا بمحاذاة أماكن مقدسة كالبِيَّعِ والكنائس والمساجد؛ وهو ما يماثل بالنسبة لليهود خلعهم لنعالهم بالنسبة لمسلمي المغرب، وعلى الرغم من التبريرات التي قدمها المخزن مما يفيد أن هذا الذمي المعنَّف معروف بوقاحته إلا أن الدبلوماسية الخارجية برَّأتْهُ منها.
مقتل يهودي على يد المخزن ينتهي بأزمة الديبلوماسية المغربية الأجنبية:
يتعلق الأمر بمقتل أحد يهود قبيلة هْنْتِيفَة الذي اتخذت قضيته طابعا دوليا، فمن خلال الوثائق المتوفر عليها يتضح أن جون دريموند هاي سبق وأن بعث بتقرير مفصل إلى وزير خارجية بلده «آرل كرانفيل» يخبره فيه بمقتل اليهودي المغربي «يعقوب الدهان». ويفيد هذا التقرير أن الطرف الإنجليزي الذي نصب نفسه مدافعا عن الذمي المقتول سبق أن نبه إلى أن الحماية غير القانونية لليهود هي سبب مثل هذه المخاطر؛ ذلك أن(199.000) يهودي مغربي لا تشملهم الحماية معرضين لمثل هذه الجرائم مما يؤكد أنه لابد من وضع إطار قانوني لهذه الفئة التي اتفق على نزع الحماية عنهم يتماشى مع سوء التسيير الإداري المغربي السائد آنذاك، والملاحظ أنه تم تهويل هذه القضية من لَدُنِ البعثات الديبلوماسية إلى درجة أنها أصبحت حديث الساعة، وهو ما جعل محمد بركاش يراسل على وجه السرعة السلطان لإخباره بفحوى مراسلة «شارل إكار» خليفة القنصل العام الفرنسي بالمغرب منبها إياه إلى خطورة الوضع وأن فرنسا عازمة، بتزكية من الدول الأجنبية، على احتضان وحماية كل اليهود المغاربة وأن الخطير في الأمر هو أن اليهودي قتل على يد عامل قبيلة هنتيفة مما يسيء إلى المخزن والسلطان نفسه. ونظرا لخطورة الوضع فإن مولاي الحسن طلب من وزيره في الخارجية محمد بركاش بضرورة إحضار ابن اليهودي المقتول إلى البلاط للبحث معه في حل أنسب لطي صفحة الماضي علما أن ابن اليهودي ظل يتردد على ممثلي الدول الأجنبية في مدينة طنجة من أجل الضغط على السلطان والحصول على امتيازات كحرية التدين وتأمين حياة اليهود وممتلكاتهم. وبالموازاة مع ذلك حاول كبير اليهود بالمغرب آنذاك الحزان «إِينِّيرْ» أن يطوي، هذا الموضوع الذي أصبح يسيء للعلاقة التي ظلت تربط بين المخزن واليهود المغاربة، كما عبر على أن تداولها على نطاق دولي لا يمكن أن يجدي نفعا، ولن يشفي غليلا؛ ذلك أن اليهود خلال هذه الفترة كانوا مهددين في أرواحهم وممتلكاتهم كما هو الحال بالنسبة للمسلمين أنفسهم، ومن خلال مراسلة هذا الأخير لوزير السلطان في الخارجية السيد محمد بن العريي الجامعي يتضح تنازل اليهود عن هذه القضية مرجحين أن يكون سبب القتل مرتبط باليهودي نفسه، وأن القائد المتهم السيد عبد الله بن الحسن الزناكي بريء مما نسب إليه ويتضح من لغة المراسلة أن الحزان استخدم أسلوبا لبقا يليق بالمقام المرسل إليه حيث استخدم عبارات تظهره ذليلا متشفعا في الوزير مشيرا إلى أن عزل القائد فيه ضرر للمسلمين واليهود.