تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..
مساندة دولة بريطانيا العظمى للمغرب في مسألة حرية التدين
في الوقت الذي تفاقمت فيه الحماية القنصلية وأصبحت تهدد مداخيل الدولة المغربية كورقة ضغط للتملص الضريبي والتعنت أمام سلطات المغرب، دعا المولى الحسن إلى ضرورة عقد مؤتمر دولي لتدويل هذه القضية، وبالموازاة مع ذلك تحرك اليهود من كل حدب وصوب للتعريف بقضيتهم و بكونهم شعب مضطهد وأن رفع الحماية عنهم سيكون له أثر سلبي على وضعيتهم كأقلية داخل بلد أغلبه من المسلمين. فقد لجأ اليهود المغاربة إلى الجمعيات اليهودية العالمية بالعواصم الغربية منبهين إياهم أن كارثة عظمى ستحل بهم إذا رفعت عنهم الحماية، وهي مناداة أثرت في هذه الجمعيات التي نشرت الخبر في كبريات الصحف، مما جعل الحلف اليهودي يستجيب لمطالبهم على وجه السرعة فأرسل وفدا إلى مدريد لعرض قضية اليهود المغاربة على أنظار المؤتمرين للظفر بمكانة متميزة لهم داخل المغرب وبضمانات دولية، وفي هذا الإطار بعث وزير بريطانيا العظمى المفوض بدولة إسبانيا رسالة يخبر فيها بزيارة الوفد اليهودي له، ويطلعه على الجواب الذي قدمه لأعضائه وهي رسالة مؤرخة في (3 يونيو 1880) الموافق لـــــ:(24 جمادى الثانية من عام 1297). ولأن بريطانيا كانت لها مصالح في المغرب مؤطَّرة باتفاقية 1856، ظل يدافع عنها السير «جون دريموند هاي» فإن الحكومة الإنجليزية رأت، من باب الموضوعية، أنه يجب ضرورة فصل مسألة حرية التدين عن الحماية القنصلية التي هي موضوع مؤتمر مدريد حتى لا يختلط الحابل بالنابل. وبخصوص الوفد اليهودي الذي زار مدريد لطرح قضية اليهود المغاربة فإنه لم يحصل على توافق بطرح المسألة على أنظار المؤتمر، وإنما قَبِل الوزير البريطاني في إسبانيا بطرحها على شكل مُخْتَلِفات، أي على هامش جدول الأعمال، منبها على أن سلطان المغرب لن يقبل مساواة اليهود مع جيرانهم المسلمين في الأمور المتعلقة بالدين مستشهدا بما سبق لجون دريموند هاي أن عبر عنه للسلطان بخصوص هذه النقطة التي يمكن أن تثير نعرات تطرفية من المسلمين ضد اليهود، وهو ما جعل الوزير البريطاني ينبه الوفد اليهودي إلى أنه ليس من باب الحكمة إثارة هذا الموضوع في مثل هذه الظرفية الحرجة، مع طمأنتهم إلى أن المؤتمر لا يمكن أن يقفز على هذه النقطة. ونظرا لتمسك بريطانيا برأيها فيما يخص عدم التطرق للمسألة الدينية في مؤتمر مدريد؛ فإنه أرى من الواجب ضرورة الاستشهاد برسالة بعث بها جون دريموند هاي إلى وزير الخارجية البريطاني آرل كرانفيل وهي مؤرخة في(24 يونيو 1880 الموافق ل16 رجب 1297):
«كان لي الشرف التوصل بمراسلة سعادتكم المؤرخة في 15 من الشهر الحال، والتي نقلتم على صحبتها نسخا من مراسلتكم مع الكونط كاروليي تتعلق بما أقدمت عليه حكومة النمسا ــــ هنكاريا لتضمن دعوة إمبراطور المغرب إلى إصدار إعلان لفائدة التسامح الديني وعرضه على أنظار مؤتمر مدريد. وكان جواب الملكة أنه بدا لها من الأفضل الالتزام بالقضية التي انعقد المؤتمر من أجلها، لكنها لمحت مع ذلك إلى أنها ستكون سعيدة بالانضمام إلى النمسا ــ هنكاريا وبقية الدول العظمى عند نهاية أشغال المؤتمر، لتوجيه احتجاجات قوية إلى حكومة المغرب ضد أي اضطهاد يمارس في حق اليهود وفي حق غير المسلمين من رعايا الإمبراطور، وأيضا لحثها على ضرورة تقديم نفس الامتيازات وكامل الحريات الدينية لفائدة كل فئات السكان.
فيما يتعلق بالاقتراح الذي تقدمت به حكومة النمسا ـــ هنكاريا والذي تضمن دعوة الإمبراطور المغربي إلى إصدار إعلان لفائدة التسامح الديني، فإنني لا أظن أن السلطان سيثير أَيَّ صعوبات أمام إقامة الشعائر الدينية سواء تلك التي يمارسها العديد من الفرق المسيحية أم يهود هذا البلد، لأنه لا يمكن نكران ما عبرت عنه الحكومة المغربية من تسامح كبير وكذلك السكان المسلمون، بشكل فاق حكومات بعض البلدان الكاثوليكية إزاء كل الذين لا يدينون بنفس العقيدة.