وقت مستقطع من الحرب (10) محمود الريماوي: ضد الحرب.. مع العدالة

هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

 

للأسف فقد نشأت في كنف الحروب، اذ ولدت بعد بضعة أشهر من حرب النكبة في مايو/ أيار 1948، وقد لجأ ت عائلتي آنذاك من يافا إلى قريتنا بيت ريما. وما إن بدأت أولى مداركي في الطفولة تتفتح، حتى كنت أرى جموع اللاجئين تطرق باب بيتنا في أريحا التي انتقل إليها أبي للعمل والاقامة فيها. كان اللاجئون بحاجة للتسجيل واستصدار بطاقات لاجىء تُمنح لهم من طرف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين(أونروا) التابعة للأمم ىالمتحدة، وكان أبي يعمل مسؤولاً في هذه الوكالة الدولية.
لن أنسى وأنا ربما ابن السادسة أو الخامسة فقط منظر النسوة وقد غشيهن الخجل والارتباك، لاضطرارهن للحصول على بطاقة لاجىء كي يوفرن من خلال هذه البطاقة لعائلاتهن المواد التموينية الأساسية. وأذكر أن لون البطاقة كان أزرق، وهو اللون الأساسي للأمم المتحدة. لقد أدت الحرب لاقتلاعهم من وطنهم، وطننا فلسطين، الذي قامت على أرضه دولة اسرائيل. بعدئذ أصبحنا نناصر الرئيس جمال عبدالناصر أملا بحرب عربية تستدرك الهزيمة والخسارة الكبرى، فما إن نشبت هذه الحرب في العام 1967 حتى خسرنا ما تبقى من فلسطين: الضفة الغربية وقطاع غزة.
بعئذ، وقعت حروب متفرقة: حرب 1973 العربية الاسرائيلية التي فتحت الأبواب أمام مسلسل التسويات. وليس بعيدا عنا، وقعت حرب لبنانية طويلة من العام 1975 الى العام 1990، وخلالها وقع غزو للبنان صيف 1982 . وقبل ذلك، وقعت الحرب العراقية الإيرانية المديدة أيضا، والتي استغرقت عقد الثمانينات بأكمله، ثم غزو النظام العراقي للكويت، وحرب الخليج الأولى والثانية، والحروب الإسرائيلية الدورية على قطاع غزة، والحرب المدمرة على السوريين، وها أني أكتب هذه الكلمات على وقع الحرب الروسية على أوكرانيا، وأجدني قريبا من مسرحها وفضائها، فهي تشبه الإسهام الروسي في الحرب على السوريين، وتعيد التذكير بوقائع من الحرب في اليمن، وعلى غزة .
أجل.. كل هذه الحروب. وإنها لوفيرة ومريرة يا أخي، ومع ذلك فإني أتوفر في داخلي على قناعة لا أعرف من أين وكيف تأتت لي وفحوى هذه القناعة: إن الحرب استثناء، وإن السلام هو القاعدة في الاجتماع البشري، وإنه لا يليق بالبشر الاحتراب وأن يسفكوا دماء بعضهم بعضا. ولهذا لا أهتف في داخلي للحروب، بل للعدالة. وأناصر بكل قواي السلم، مشفوعاً بحفظ الكرامة البشرية.. كرامة الشعوب والأفراد وحقوقهم بالعيش بأمان في أوطانهم.
الحروب ليست عادلة ومن يشرع بها، يبادر إليها.. فإنه يفتئت على العدالة، وقد كان شعبي ضحية لحرب غشوم. ولن ينمحي أثر تلك الحرب الظالمة، ولن يكف شعبي عن التمسك بحقوقه الثابتة، إلا بسلام عادل، وليس بسلام مغشوش يقوم على شرعنة الأمر الواقع الشاذ.
نزوعي للسلم وإيماني به، جعل الحروب تحتل مكانة جزئية في ما كتبته من نصوص قصصية وعمل روائي هو «من يؤنس السيدة». أؤمن بواجب المبدعين والمثقفين في كل مكان بوجوب مناصرة العدالة بصورة مبدئية وحازمة، بدون لبس أو تمويه أو لجلجة، وبكل وسائل التعبير، وذلك أفضل من التجييش وارتداء الخوذات والتخندق وتغذية النازع الحربي. ولأني مع السلم، أجدني أقف بغير تردد مع أوكرانيا والأوكرانيين، حتى لو لم يناصر قادتها قضية فلسطين. فالمسألة أخلاقية ومبدئية ضد الظلم، وضد طموحات «الكبير» في السطو والسطوة على «الصغير»، وبالطبع على أمل أن يدرك قادتها لاحقاً، بعد أن يهدأ غبار الحرب، أن ما أصاب شعبهم ووطنهم قد أصاب من قبل، بصورة أشد فداحة، فلسطين وشعبها.


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 13/04/2022