وقت مستقطع من الحرب (33) فريدة بوفتاس: أسئلة من زمن الحرب

الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

لا أظن أن هناك من العقلاء من يشتهي يوما،أن تخترق رصاصة رأسه، أو أن يتحول جسده إلى كومة أشلاء.
هو أمر في غاية الغرابة، أن تشتهى وضعيات كهاته، ولكن الذي يحدث هو أن بعضا من الناس يقبلون على الحرب بشهية مفتوحة، بل الأدهى من هذا، هو أنهم يدعون غيرهم /ن إلى هذه المأدبة الدسمة بالموت، دون تورع أو تقدير للعواقب.
من الجلي أن هذه الدعوة المستهترة بالحياة، لا تصدر عن البسطاء من البشر، فهؤلاء يكفيهم/ن أن يلهثوا وراء ترميم أعطابهم/ن المادية والنفسية المتلاحقة، والناجمة عن سياسات محلية ودولية، أخفقت في أن ترفع القلق عنهم /ن، وهاهي تزج بهم /ن في حروب طاحنة يكونون فيها الخاسر الأول والوحيد. وضع غير مريح للإنسان، في عالم يضج بالقرارات المنفلتة من عقال العقل والحكمة، وهذا ما يمنحني أحقية الافتراض التالي: لو كان قادة العالم حكماء (فلاسفة) لعمَّ السلام، ولارتفع القلق الوجودي عن الانسان.
فما الذي كان سيحمله هذا البذخ الفكري إلى ممارستهم السياسية؟
قد يعترض على هذا الافتراض من طرف الذين لا يقتنعون بجدوى الفكر الفلسفي، ولا يروق لهم ما يبدعه المشتغلون بها، بحجة أنه لغو، وسفسطة تخلو من المعنى، وهؤلاء غالبا ما تجدهم واقعين تحت سطوة الانبهار بالعلم والتكنولوجيا، مفوتين بذلك فرصة إدراك العلاقة المتينة الجامعة بين العلم والفلسفة، مما يجعلهم يفضلون التكنوقراط على الحكماء، كقادة للعالم. أو قد يعترض على الحكماء باسم الدين، على اعتبار أن المشتغل بمحبة الحكمة، هو خارج عن الملة والدين، وهذا أمر قد نواجه به في إطار دولة دينية.
لكن، ما دام الافتراض قائما، وهنا سأمتح من تاريخ هذه الممارسة الفكرية العقلانية، ما به يمكن أن نتلمس الطريق إلى محاولة فهم ظاهرة الحرب ودواعيها .
سوف نطرح التساؤل التالي: هل لاندلاع الحرب علاقة بالطبيعة الانسانية؟ بمعنى ٱخر، إلى أي حد يمكن أن نتحدث عن طبيعة بشرية عدوانية كأساس للحرب (العنف )؟
يخبرنا الفيلسوف الانجليزي، توماس هوبز، بأن ثمة قانونا نابعا من الطبيعة loi de nature، وهو مبدأ وقاعدة عامة اكتشفها العقل، ويمنع بمقتضاها على الانسان أن يفعل ما قد يؤدي إلى تدمير حياته، أو يحرمه من وسيلة لصيانتها.. من هنا كان حق الطبيعة، وهو هنا الحرية المطلقة التي لكل انسان في أن يتصرف كما يشاء للمحافظة على بقائه، وقد تمتد هذه الحرية الى أجساد الغير، وإلى كل الأشياء. وهذا ما جعل حال الانسان هي حالة حرب الكل ضد الكل، وشكل خطرا بينا على الوجود البشر. أما رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد فقد اعتبر أن الانسان كائن غراىزي، يشبع عنفه على حساب الأغيار، مسببا لهم ألما.. هذه النزعة العدوانية لديه هي سبب اضطراب العلاقات بين الناس، إلا أنه سواء أتعلق الأمر بطبيعة إنسانية أم بغريزة، فإنه من الصعب أن نساير هاتين الأطروحتين فيما ذهبتا إليه، جازمين بأن الطبيعة الإنسانية عدوانية، لأننا بهذا سوف نقضي على فرصة بناء تصور إيجابي عن الانسان، وعن الإمكانيات اللامحدودة لديه من أجل تجاوز هذه التي وقع فيها، لتجعل منه مجرد محارب عنيف عبر التاريخ.
لنذهب إذن إلى اعتبار أنه يملك طبيعة خيرة، كان من الممكن أن تحتفظ بكل وهجها وصفائها لولا تعقد مسارات الوجود الإنساني، وتداخل المصالح الذاتية للأفراد والجماعات.
لكن حتى وإن حدث ذلك،كان من الممكن أن يكون لهذه الخيرية الجاثمة، وأيضا للعقل الذي به تميز عن باقي عناصر الطبيعة الأخرى، إنقاذ العالم من شبح الحرب والموت الواقف على اعتابها. فملكة العقل بحسن تدبيرها تمنح الحكمة لصاحبها، وبهذا كان يمكن إهداء العالم فرصة سلام، بعيدا عن هوى السلطة والتسلط، والتحكم في الرقاب، كان العالم سيكون أكثر سلاما، لو كان قادته المتعاقبون على السلطة متشبعين بالحكمة التي تفترض في من تملكها صفات أخرى، من قبيل الصدق، الذي تجب محبته، لأنه وكما ورد على لسان سقراط، لا يمكن الجمع بين الحكمة والكذب، إضافة إلى العفة التي تبعد عن الطمع، فيكون المرء»أبعد أهل الدنيا عن اعتبار الأشياء التي تحمل المرء على الاستماتة في حب المال مهما يكلفه الامر «. كما أكد أنه «لا يمكن زوال تعاسة الدول وشقاء النوع الإنساني ما لم يملك الفلاسفة، أو يتفلسف الحكام، فلسفة صحيحة تامة، أي ما لم تتحد القوتان السياسية والفلسفية».
يبدو واضحا أن تدبير الشأن العام يقتضي الجمع بين ما هو سياسي وماهو فلسفي، نظرا لأنه شأن متى اختل بصدده التفكير، الذي إن زاغ عن الثقافة والحكمة، ناله الفشل، وكانت عواقبه شاهدة على أن الانسان الذي من خلال تأسيسه المجتمعات، وسنه للقوانين، كان يرغب في أن يغادر وضعا لا يلائم طبيعته المفكرة العاقلة، وضع كان فيه يلجأ للقوة ليحافظ على ما له (بقاؤه، ملكيته، حريته…). واستعماله لعقله خرج به من حالة العنف، والحرب التي اعتبرها إيمانويل كانط، مجرد وسيلة بائسة لجأ إليها البشر ليدافعوا عن حقوقهم بالقوة نظرا لغياب محكمة يمكنها أن تحكم بقوة القانون، لكن، هذا الربط المقنع بين غياب القانون وضرورة اللجوء للقوة، وعكسهما الصحيح أيضا، لا يجد له مكانا في عالمنا الحالي، الذي تحكمه القوانين الدولية، والمحلية، إلى جانب وجود هيٱت، منظمات، محاكم دولية. ولكن هذا لم يمنع من انتشار الحروب التي باتت ثابتا لا يرتفع، ومكونا لأغلب فضاءاته، وكأن القوانين قد فقدت سلطتها وقيمتها.
ما جدوى القوانين إن لم تكن تفعل، وتحمي الإنسان من دمار محتوم؟
ما أهمية العقل الذي به سمونا عن كائنات تحركها الغريزة فقط ،لتعصف بها القوة الجسدية، ويخمدها الموت؟
أما كان علينا نحن الكائنات العاقلة أن نراكم أمجاد العقل البشري، التي أخرجت الإنسان من نفق الجهل، ونطورها في ٱتجاه يسمح بالحفاظ على بقائنا الثمين، في ظل مجتمعات تسيجها الحكمة ويحكمها العقل الذي ينتج و يحمي القيم التي غايتها خدمة الإنسان.


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 12/05/2022