الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
وأنا أكتب عن علاقتي بالحرب، حاولت تذكر الحروب التي مرت في حياتي، فوجدت أن الحروب لم تتوقف نهائيا منذ حرب الخليج الأولى، وأن التلفزيون تفاصيل الحروب عبر العالم يوما بيوم، بكل بؤسها والدمار التي تحدثه حول العالم. لقد تابعنا كل الحروب التي وقعت في العشرين سنة الماضية، بالخليج والعراق والبوصنة والشيشان وسوريا، مرورا بالحروب الأهلية بلبنان دون نسيان الكفاح الفلسطيني ولحظاته الصعبة والمأساوية. حروب كأنها كمسلسل دموي لا يمكن توقع نهايته. وليس بوسع هذه الحرب الجديدة بين روسيا وأوكرانيا سوى أن تأخذ مكانها على اللائحة المرعبة للحرب.
هل يمكننا ككتاب ومبدعين وبسبب البعد الجغرافي عدم الاهتمام بالحرب، عدم التأثر بها، عدم استشعار أن هناك خطرا قائما في كل لحظة يمكنه تدمير جوهر الوجود، الحياة. إن الإبداع فينا ينتصر للحياة في حين أن الحرب تحمل في طياتها الموت. الحرب تعيد مساءلتنا حول إنسانيتنا، حول قضايا كالعدل والديمقراطية والسلام، عن العقود الاجتماعية التي منحت للسياسيين لكنهم لم يحافظوا عليها، تعيد الحرب ايضا كتابة تاريخنا الشخصي والبشري من جديد. الحرب تعيدنا لمرحلة التحفز البدائي واللاطمأنينة، وهو شعور لا بد أن يؤثر على أجواء الكتابة في فترات الحرب.
لا يمكن للحرب سوى أن تمس الكاتب، والمثقف الذي لا يتحسس آلام شعبه لا يستحق لقب مثقف كما قال الكاتب انطونيو غرامشي، لذلك كانت الحرب سببا لظهور كثيرا من الأعمال التي تعيد كتابة أو تصوير الحرب من منظور المبدع، من منظور الأقليات والمهمشين والناس العاديين، هؤلاء الذي لا يذكرهم أحد حين الانتصار أو الهزيمة، ولا يعبر عنهم سوى كأرقام في السجلات الرسمية. وأعمال إبداعية مثل ك «الإلياذة والأوديسا»، و»الأرض اليباب»، و»وداعا للسلاح: و»الحرب والسلم»…وغيرها من الأعمال الخالدة كانت الحرب دافعا خلف ظهورها…
لكننا اليوم أمام واقع آخر، يصبح فيه الكاتب متفرجا على الحرب، بعالم أصبح كل شيء فيه تحث عدسة الكاميرا التي ترصد الحرب ومجازرها وأمواتها ولاجئيها….وتحولها لصورة من أجل الاستهلاك. هل يمكن للكاتب أن يبقى محايدا؟ نحن ندخل الحرب شئنا أم أبينا، نحن موجودون في الجبهة، رغبنا أم لم نرغب. إن القنوات الفضائية اليوم تصور لنا الصواريخ وهي تقصف الملاجئ، تصور المقابر الجماعية والشهادات الصادمة ، لقد اختلطت حدود الحرب والسلم، ونحن في الموقعين معا زمنيا، كما يحدث في نظرية العوالم المتوازية.
صوت المثقف ضروري في أوقات الحرب، حتى لو كان عاجزا عن إيقافها فإنه قادر على الجهر بكلمة الصدق والحق من أجل القضايا العادلة وحقوق الأضعف في حرب تتغول كل يوم بأحدث الأسلحة.
وأستحضر هنا إحدى نصوصي التي نشرتها بموقع ايلاف العربي سنة 2015، والذي قد يصور هذا الموقف المتضارب من الحرب، حرب بعيدة وفي نفس الوقت قريبة على شاشاتنا ووسائل الأخبار. يقول النص:
بالغرفة الشرقية
تلك التي لا تدخلها
الشمس
كنت أبكي جثة الحب
المسجاة أمامي في صمت…
وفي بالتيمور
كانوا يبكون الشاب الأسود
الذي قتلته الأيادي البيضاء
دون ذنب..
وفي اليمن
كانوا يبكون مئات الأطفال
بسبب عاصفة قِيل إن اسمَها
عاصفة الحزم …
وفي النيبال
كانوا يبكون عشرة آلاف جثة
نامت دون أن تعانق عيونها
ثانية
شمس الغد..
وبالشام كانت الجثث بكل مكان
ولم أستطع أبدا أن أفهم…
كان الجميع يبكي جثة ما
في نفس اللحظة
و في نفس الوقت..
وكنت أبكي غير عابئة بهم
كأن جثة الحب
بين كل تلك الجثث الزرقاء
كانت الأهم….
إن سؤال الحرب والمثقف تعيد دوما طرح سؤال جدوى الثقافة في مواجهة الحروب، ليس على الكاتب أن يرتدي خوذة أو يحمل رشاشا لإيقاف حرب اندلعت لأسباب اقتصادية قوية، دفاعا عن حق أو باطل، لكن بإمكان المثقف منح صوته للأقليات، لمن رحلوا دون قول كلمتهم الأخيرة، لمن فقدوا أراضيهم ومساكنهم، لمن ماتوا في قصف دون أن يعرفوا سببا لذلك…يمكن للكاتب إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظره الذاتية، يمكنه أن يكون شاهدا على عصره ويقول كلمة حق….ثم يمضي.