الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
الهزيمة والنصر وجهان لحرب واحدة، وكذلك المقاتل والراوي.
ينتصر المقاتل ليحتفل، أو ينهزم ليندفن، ويعيش الراوي ليحكي القصة.
في رواية «أزهار عباد الشمس» لألبرتو مينيديس كتب القبطان أليغريا رسالة إلى خطيبته ضمنها جملة عميقة: «علينا أن نختار بين أن ننتصر في حرب أو نغزو مقبرة «. هذا القبطان الذي ينتمي إلى جيش فرانكو المنتصر لم يختر النصر ولا اختار غزو مقبرة، بل اختار بمحض إرادته الهزيمة، واستسلم للجيش المنهزم كي يحرم نفسه من لذة النصر.
لا شيء يصف بشاعة الحرب أكثر من لوحة «بقايا جيش» لإليزابيث بتلر التي تخلد الناجي الوحيد من الانسحاب البريطاني من أفغانستان. نجا وعاش ليحكي القصة.
اختار أخيل الموت في حرب طروادة حيث أجهز عليه هيكتور، اختار الموت وهو يعرف أنه اختار خلودا آخر غير ذلك الذي اقترحته عليه والدته، خلودا في التاريخ والملاحم التي عاش هوميروس لينشدها ويحكي قصته.
«عشت لأحكي « لم يقلها غابرييل غارسيا ماركيز عبثا وهو الذي عاش تقلبات السياسية في أمريكا اللاتينية وعاصر حروبها، ولم يفته أن يحكي عن تلك الحروب الطاحنة في تلك البقعة الجغرافية من القارة الأمريكية.
وفي فيلم 300 لفرانك ميلر اهتزت الأرض تحت أقدام مليون من جنود الفرس في معركة ترموبيل التي قهرهم فيها الملك الإسبرطي لونايدس وجنوده الثلاثمائة بذكائهم وشجاعتهم، ولولا الخيانة لفتك جيش لونايدس بذلك الجيش العرمرم الذي لا معنى لعدده الضخم في ممر لا يسمح إلا بمرور عدد قليل من جنود، ممر تستسقبلهم بعد عبور مضيقه سيوف الجيش الإسبرطي.
مات الثلاثمائة بطل وعاش واحد ليحكي عن صمودهم وبطولتهم، عاش ليحكي القصة.
انشغل الناس كثيرا بمقولة منسوبة لألبرت أينشتاين يقول فيها بعد أن سألوه كيف يتصور الحرب العالمية الثالثة بأنه لا يعرف كيف ستكون تلك الحرب، ولكنه يعرف أن الحرب العالمية الرابعة ستكون بالسيوف والرماح، وانشغلت أنا بشكل القصة والرواية.
ترى هل سنعود إلى زمن الراوي والحلقة؟
عندما اقتحم جنود هتلر مقر بيكاسو في فرنسا تجرأ ضابط نازي وأراد إلقاء القبض على الرسام الشهير، فشجعه بيكاسو قائلا:
هيا تشجع وامر جنودك بالقبض على أشهر رسام في العالم لأرى ما سيحل بك من رئيس فرقتك المعجب بأعمالي. تراجع الضابط وهو يسأل بيكاسو مستنكرا: أنت الذي رسمت لوحة غيرنيكا؟
رد بيكاسو: بل أنتم من رسمتموها بقنابل طائراتكم، أما أنا فنسخت لوحتكم التي تخلد بشاعة حربكم.
وفي حروبنا الحالية التي تحكي لنا عنها وسائل التواصل والقنوات التلفزية باتت القنابل التي تنفجر وراء البحار تجهز على نفسية الإنسان أينما كان.
كل إنسان، حيثما كان، يعرف أن حياته وطموحاته وآماله وسعادته ودفء أسرته وووو على مرمى صاروخ.
هل أحكي عن هذه الحروب؟
ربما، وسأقول أن حروب الحاضر بكل أنواعها الدولية والاجتماعية والأسروية أخطر من أي حرب فاتت، لأنها تجهز على المقاتل والراوي.
فمن سيحكي القصة إذن؟
سنحكيها نحن الرواة الذين نظن أننا نجونا من الهلاك بنفس الإصرار الذي حكى بها هيرمان ميلفين قصة أهاب ورغبته في تسيد الكون التي أودت به، بعد مطاردة مجنونة لموبي ديك، إلى الهلاك. سنروي حكايات الخراب الذي تخلفه رغبات الزعماء المجانين مثلما روى خوان بريسيادو حكاية قرية كومالا التي حولها إلى أشباح الغرور الزائد الذي تملك زعيمها بيدرو برامو.
سنكتب حكايا الحروب بمداد أحمر يسيل من العروق ويفيض على الصفحات البيض قبل أن ندرك، مثلما أدرك خوان بريسيادو، أننا صرنا أمواتا منذ زمن بعيد.