وقت مستقطع من الحرب (38) : فاطمة الزهراء المرابط: عشت حربا مختلفة

الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

 

عندما نتحدث عن الحرب، نتحدث عن الألم، والوجع، والفقدان، والكثير من الدموع التي يذرفها الابن والأب والأم والزوجة… إلى أن تصبح مناحة جماعية، تكبر آثارها يوما بعد يوم.
كنت أقرأ عن الحرب، وأنا طفلة وأشاهد ويلاتها في مسلسلات الكرتون، وفي الأفلام الوثائقية التي تنقل لنا صور الجثث وبقايا الأجساد البشرية، والمنازل المهدمة والسيارات المهشمة. فترسخت هذه المشاهد في ذاكرتي الطفولية، وقد تعودت عيني على مشاهدة البحر والطبيعة الخلابة، والوجوه المبتسمة. فالمشاهد وحدها مؤلمة لمن تنعم بلاده بالأمن والسلام. وكم كنت ولازلت أخشى أن يصل دورنا يوما ما لنكتوي مثلهم بنار الحرب والألم والفقدان.
لم أعش الحرب واقعيا وإنما افتراضيا عبر القراءة المكثفة للكتب التاريخية -بحكم تخصصي الدراسي في شعبة التاريخ- التي قربتني أكثر من الحروب والنكبات العالمية، علمت حينها أن الحضارات والدول تأسست على أنقاض الجثث والدماء والأرواح البريئة، وإبادة الشعوب بمبرر نشر الديانات السماوية، أو استعادة الحق المفقود وغيرها من المبررات التي تحقق الشرعية للمستعمر من أجل القضاء على الآخر، وفرض قبضته الحديدية، وإعادة بناء عمران الدول من جديد، بل إحداث نظم اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية جديدة، إذ ترك لنا المستعمر الكثير من منجزاته على المستوى الكوني.
وقتها خبرت معنى أن تدمر دولة بأكملها، بعمرانها ومواردها البشرية، بسبب الصراعات السياسية والأطماع الاقتصادية. وأن يعمل المنتصر على إنهاء الحضارة السابقة ليبني على أنقاضها حضارته الجديدة، وهذا هو السبب الذي جعلنا نفتقر إلى المعالم التاريخية والعمرانية التي خلفتها الدول الإسلامية المتعاقبة على حكم بلادنا، -باستثناء بعض المعالم القليلة- وكأننا جئنا إلى هذا العالم لنقتات من الدماء الحمراء والذاكرة المتلاشية.
قرأت عن توسع رقعة الإسلام عبر الحروب المتعددة إلى أن صار منتشرا في معظم مناطق الكرة الأرضية، وتوسع الكثير من الدول الغربية والعربية، مثل الدولة المغربية في عهد المرابطين والموحدين خصوصا، التي وصل توسعها إلى أوربا قبل أن تتراجع خريطتها بعد ظهور قوى أخرى أقوى منها.
عندما كنت أقرأ روايات جرجي زيدان وغيرها من الأعمال الروائية والقصصية ذات البعد التاريخي، كنت ألمس ويلات الحرب وانعكاسها على النفوس البشرية، وكيف كان السيف هو الفاصل، يؤدي إلى الهزيمة أو الانتصار، وكيف عوضته أسلحة أخرى متطورة لتحقق المزيد من الدماء. وأعترف هنا بمدى قدرة كُتابها على نقل الأحداث الدموية والخراب إلى القارئ كما عاشوها أو سمعوها. وإن كنت قد عرفت الأضرار التي تخلفها الحرب في شتى المجلات: الاقتصادية، الاجتماعية، العمرانية، الفكرية… عبر الكتب التاريخية، فإني عرفت من خلال الأعمال الأدبية الأضرار النفسية والأعطاب الجسدية التي ابتلي بها الكثير من ضحايا الحرب.
وقد تحولت القراءة والاطلاع الافتراضي لاحقا، إلى واقع عايشته مع حرب العراق وفلسطين وليبيا وسوريا وغيرها من الدول التي كانت تعاني ويلات الحرب، وكانت القنوات الفضائية والجرائد تنقل إلينا بعض الأحداث، فكنا نتألم لما يحدث هناك، خاصة مع توافد بعض اللاجئين الفارين من الحرب وقسوتها، وكثيرا ما تضامنا معهم عبر احتجاجات ومظاهرات سلمية وُوجهَ بعضها بالقمع الأمني.
وإن كنت لم أعش هذه الحروب الدموية في بلادي، فقد عشت حربا مختلفة عانى منها كل فرد يتنفس على وجه الكرة الأرضية، الحرب ضد وباء كوفيد، الذي خطف أرواح الكثير من الرجال والنساء من مختلف الأعمار، وغير تفاصيل حياتنا اليومية، هذا الوباء الذي عشنا معه لمدة سنتين حروبا متعددة أهمها الإصرار على البقاء، وتحمل قسوة الحجر الصحي وحظر التجول والتنقل لشهور عديدة.
كما نعيش يوميا حروبا نفسية وفكرية وثقافية واقتصادية واجتماعية… وهي الحروب التي تستهويني وتستهوي غيري من الكُتاب -حاليا- للكتابة عنها وعن وعوالمها وويلاتها، بعيدا عما خلفه لنا التاريخ من كوارث كونية. فصرنا نناضل عبر أقلامنا من أجل إيصال صوتنا ورسائلنا إلى المتلقي، ونحن ننبش في قضايا مختلفة تهمنا جميعا من أهمها: الصحة والتعليم والثقافة والاقتصاد وغيرها، من القضايا الهامة التي من شأنها أن تجنبنا الحروب والوجع والكثير من الألم… دون أن أنسى الحروب الخفية التي يعيشها المشهد الثقافي، والتي غالبا ما ينتصر فيها الكاتب الجاد الذي يحترم قلمه.


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 18/05/2022