الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
تمتد العلاقة بين الأدب والحرب إلى عهود قديمة، فقد ظل المبدع شاهدا على كل الدمار الذي لحق بالعمران والإنسان ، ظل يتابع بألم وتوجس كل ما تمور به دائرة الصراع، يوثق بشكل لاواع تفاصيل الأحداث،إذ تتحول ذاكرته إلى كاميرا تلتقط المشاهد التراجيدية، ومن رماد هذه التجربة، تنبجس إبداعات تعكس الإحساس الفجائعي للمبدع بالحرب، وهو المنذور لمقاومة القبح والعنف، المنتصر دوما لقيم الجمال والبهاء، وفي ظل هذا الارتباط بين الإبداع والحرب، أمكن الحديث عن أدب الحرب بعد التراكمات المحققة في هذا المجال، وارتكازا على السيرورة التاريخية ، نتبين ارتباط كل مرحلة بهذا الضرب من الأدب ،مما مكن من توفر تراكم نوعي وكمي، انطلاقا من الإلياذة والأوديسة ومرورا بملاحم ومسرحيات وروايات،ولعل تباين الأجناس الإبداعية المتفاعلة مع الحدث، ينم عن انخراط جل المبدعين في الكتابة وعدم الارتكان في منطقة الحياد، فمن البدهي أن يكون المبدع هو الأكثر تأثرا وهو الحالم بعالم من الصفاء والجمال والطمأنينة الأبدية،ولحظة الحرب، لحظة تماس بين ثبوت تلك اليقينيات بانتصار إنسانية الإنسان، وخلخلة هذا اليقين المتداعي أمام عينيه، لذلك يحضر الإبداع لحفظ الذاكرة من الطمس والمحو،في أفق إعادة بناء العوالم الآيلة للانهيار،وتأبيد حضورها الرمزي في الذاكرة الإبداعية.
طبعا أعيشها بكل هشاشتي الإنسانية ولا يمكنني تجاهلها، لأن عنصر التجاهل لايستقيم مع الحساسية التي تشكل وجداني كمبدع، فتواتر الأخبار عن تطور المعارك، وصور الضحايا والخرائب والحرائق، تتسرب عبر قناة هذا الإحساس المفرط بالحياة لتستوطن الذاكرة وتحفر فيها أخاديد ونتوءات تعاند النسيان، وتفاقم الإحساس بالعجز،وبدون سابق إعلان ينبثق المخزون كالمياه الجوفية منسكبا على الورقة نصا يانعا بالحب والرفض لهذا الجنون البشري، هناك تستثمر هذا الألم بشكل مخطط له، ويغدو نصا شهادة عما جرى،بينما نصوص أخرى تدمغ أفقها التخييلي بارتدادات الحدث عبر الرفع من منسوب الإحساس الموجع بالانكسار والإحباط واهتزاز اليقينيات، مادام تخلق النصوص يلقح بكل المياه التي تسربت لفرشة الذاكرة.
زمن الحرب، زمن نفسي يتأبى على التجاهل واللامبالاة، بكل الهشاشة الإنسانية، يندفع الكائن إلى التفاعل التلقائي أمام شريط الصور المتواترة لجحيم الخراب، وحتى لحظات الصمت والانشداه تصير تعبيرا ينتصر لعجز وعطب اللغة، رجات الحروب تعيد تشكيل الوجدان وتخضعه لفعلها المدمر، إذ في مقابل خرائب العمران، خرائب الروح تولد إحساسا دفينا بالخواء الجواني،لذلك يحضر الإبداع لترميم كل التشققات والتصدعات عبر رتقها بخيط الجمال والحلم حينها يصير النص مأوى رمزيا يقينا صقيع العالم، ويدثرنا بدفء يعيد طمأنينتنا بكون الإنسان فينا مازال قادرا على الحياة، ومواجهة آليات التقتيل الرمزي، فالنصوص المضمخة بالشاعرية الباذخة، ظلت دوما نشيدا يمجد الحياة وينتصر للأمل.
لايمكن دحض العلاقة الاستثنائية التي تجمع وتفرق بين الحرب والإبداع،إن سجل الإبداع البشري حافل بملاحم، وروايات، وقصائد، ولوحات، وأفلام، وموسيقى وكل أشكال التعبير الأخرى والتي تتقاطع كلها في الرغبة اللاواعية لتشييد قلعة محصنة ضد كل حرب، وأيضا في توثيق لحظات العته والعنف البشري، هي وسيلة لإدانة تخلي الإنسان عن آدميته والانجراف نحو الكائن الهجين الثاوي فيه والمتنكر في شخصية الإنسان الإنساني، ففي لحظة الحرب تسقط الأقنعة، وتختبر الذوات في مدى صمودها ومقاومتها للحفاظ على كينونتها الجوهرية التي بها تمارس شرطها الحياتي، من هذه الزاوية تتمفصل هذه العلاقة المثيرة بين الأدب والحرب، إذ بين السعي نحو تدوين الألم، وبين استحضار الرغبة في استنبات القيم الإنسانية بدل زراعة الألغام، تمتد مسافة قيست باستمرار، بحجم النصوص التي تجيد اختزال الطريق والتشوير على أيسرها وأكثرها أمنا وسلاما.