الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
اليوم الأول: السماء زرقاء، ليس فيها ندفة غيم تبشر بالغيث، الأسعار سُعار، العلاقة مع الجيران الأشقاء تزداد سوءا، الكرة منفوخة بالسياسة بدلا من الهواء، كوفيد 19 يغير هويته، التلقيح يثير مخاوف جديدة الاحتقان العام يسجل رقما غير مسبوق.. شرارة حرب تندلع مهيئة العالم لفصل مأساوي جديد ، روسيا تشن هجوما ضاريا على أوكرانيا، أنا منشغلة بترميم التصدعات التي خلفها رحيل أختي متأثرة بفيروس كورونا.
اليوم الثاني: كرونا تصيب مساعدتي بتختر الدم، أسمع أخبار الحرب عبر نشرة الظهيرة ، الحرب هذه المرة تنذر بانفجار عالمي . أين تقع أوكرانيا؟ يسألني حارس السيارات، بجوار روسيا أجيب، بقلق زائد يسألني: سيستعملون السلاح النووي؟ يرن هاتفي، صديقتي باكية تخبرني أن ابنها ر.ق سافر إلى هناك منذ الإثنين ، ليرتب العودة النهائية إلى الوطن صحبة زوجته الأوكرانية، هو الآن عالق في زيتومير 150 كيلومترا غرب كييف، لايستطيع التحرك نحو الحدود الآمنة.. لديه طفلة صغيرة، طالب جزائري قضى وأسرته بعد أن انحرفت سيارته على أحد الجسور، الوضع خطير ،القصف متواصل والطرق غير آمنة ..
اليوم الثالث: أتصل بأصدقاء أبناؤهم هناك، أخبار مقلقة، متطوعون شباب يبذلون قصارى جهدهم لإنقاذ إخوانهم التائهين وسط الثلوج في شتاء روسيا المخيف، آخرون يتصدون للعنصرية التي يغذيها الرعب ، حيث يتعاظم الخوف وتستشري الفوضى تنتصر الهويات القاتلة ، أو هكذا قال أمين معلوف ..أردد قولة هنري باربوس الشهيرة «لعنة الله على الحرب».
اليوم الخامس: يتصل ر .ق بوالدته ويخبرها أن أصهاره يحاولون إخراجه وأسرته إلى حدود هنغاريا.. أعود إلى الخارطة وأتأكد من شساعة الحدود الأوكرانية ومن سلامة اختيار الوجهة بالنسبة للشباب هناك، مشاهد صادمة تنقل صور البؤس الإنساني وحجم المأساة التي وجد الطلبة المغاربة وغيرهم أنفسهم في تلافيفها . هل يستحق السلام كل هذه المذابح يا كانط ؟
اليوم السادس: أشغل نفسي بتفاصيل يومي ، أنفذ وصية أختي هـ . بكثير من الألم ، تتصل بي أختي ش. من فرنسا ، الأزمة تتفاقم بسبب الوباء ، والآن يزيد الطين بلة اندلاع الحرب ، سيشهد العالم أزمة خانقة ، هذه المرة ستمس الأزمة قوت المواطن ، بسبب ندرة الدقيق والزيت وغلاء المحروقات ووو ، أكتفي ببعض العبارات المواسية وكأنني لست من هذا الكوكب .,أتذكر ما كتبه فلوبير الذي حاول أن يبقى بعيدا عن الحرب )حرب بروسيا على فرنسا سنة 1870) « في المساء، في الشارع ، كان هناك رجل يسير أمامي ، يداه في جيبه، وهو يغني بمرح ، فجأة توقف صائحا كمن استيقظ من سبات : يا إلهي كل شيء يسير بشكل سيء ! يا إلهي كل شيء يسير بشكل سيء !»
أفكر في الحرب فيخترق ذاكرتي صوت ناشف قلق متلاش كأنه خارج من حنجرة ميت ، صوت خالي ، أحد أعضاء الكومية (اسم أطلق على المغاربة المشاركين في الحرب العالمية الثانية ) المغاربة الذين حاربوا النازية تحت الراية الفرنسية ، وهو يقول : « قضيت أياما رفقة صديقي الجريح ، قتل كل من كان معنا ففررنا نحو الغابة ، بقينا هناك دون منقطعين دون مدد ، تعفن جرح صديقي ونال منا العياء والجوع ، سلمنا أنفسنا ، حينها علمنا أن فرنسا قد استسلمت ، حاربنا من أجل البقاء أحياء ، ولأجل ذلك سلمنا أنفسنا..»
إننا لا نستعيد الحرب بالحكاية بل نستعيد ما بقي منها ، أي قليلا جدا من الحقيقة ، القليل الذي لا يصلح لصنع سلام دائم، هكذا كان خالي العجوز يقول لي وهو يتذكر أصدقاءه الذين تساقطوا كأوراق الخريف في شتوتغارت ، وبلجيكا ، وهولاندا ، دون عقيدة حرب واضحة ، الحرب لن تجدها عند من نجا من الموت ، الحرب تجدها عند الموتى ،يأخذون تفاصيلها ويرحلون ، لأنها أفظع من أن تحكى ، لهذا يكرر الأحياء التجربة وكأن الحرب هي الأصل ، وكأن كل ما نفعله هو انفلاتات صغيرة ، نبني خلالها أهدافا كبيرة سرعان ما يتم تدميرها بشراسة . العالم حين يشيخ يحترق كي يتجدد .
لطالما شغلني موضوع الحرب ، لم أعشها بشكل مباشر ، لكنني أعجبت بتأملات تولستوي وضبطه العبقري للمسافة الفاصلة بين الرواية والتاريخ في الحرب والسلام، أعجبت أيضا بتصوير غونكور للحياة الباريسية اليومية في ظل الصراع مع بروسيا ، شاهدت أكثر من مرة فيلم «ذهب مع الريح» ، عن رواية للكاتبة مارغريت ميتشل ، لم يسود أحد وجه الحرب مثلما فعل سيلين في سيرته «رحلة إلى نهاية الليل»..و آخر ما قرأت كان رواية فرانكنشتاين في بغداد للعراقي أحمد سعداوي ، ورواية الحياة من دوني لعائشة البصري ، والتي تناولت موضوع اغتصاب النساء في الحروب والنزاعات .. وأنا أقرأ قصيدة أبي تمام في وصف معركة عمورية، و أشرح بحماس المعجب بالشاعر، قدرة الشعر على تغيير البشاعة إلى لوحة مجازية بالغة الجمال ، قاطعني أحد الشداة بسؤال غريب عن سياق الدرس ،وإن لم يكن غريبا عن السياق العام الذي شهد انهيار دول ، وتحطم قناعات باسم الحرب ضد الإرهاب: «لماذا نتحارب؟»، لم أقف عند استعمال الشاب لحروف المشاركة في فعل لا نشارك فيه إلا كضحايا ، كان الجو متشبعا بما يكفي من القتامة و البؤس .قلت ،ربما لأن طبيعة البشر الأولى هي الوحشية كما قال فلوبير ، و أن البشرية هي عدد هائل من الحمقى ، وربما لأن الحرب تحمل عنصر الغرابة الذي يثير الجموع ، وهذا ما يفسر حماسة الجماهير التي سرعان ما تخبو مع تزايد الخسائر .وتتحول إلى شعور مدمر بالقلق ، قلق ناجم أساسا عن كوننا لا نواجه الحرب في مجموعات كما الظاهر، ولكننا نواجهها في الخنادق كما في الأقبية ، فرادى كمن يواجه وحيدا موته ، ولأن الحرب مباغثة ، فإن نتائجها منفلتة تزري بكل التكهنات، و صادمة مهما حاول البعض تجميلها أو إضفاء طابع العظمة والتقديس عليها كما فعل الشاعر الفرنسي تشارلز بيجي وغيره ، مدحها لكنه مات تحت سنابكها ، ولا أحد يعلم إن كان شعوره بالبطولة قد تغلب على شعوره بالموت في اللحظة الأخيرة . العالم رقعة صغيرة لا تنتهي الحرب فيها قط ، إنها مخالسة حربائية ، لها أبطالها الذين يتسلقون المراتب ، كما لها أبطالها الذين يتسلقون الهاوية . الذين فقدوا أصدقاءهم وأقرباءهم في الحرب ولم يحملوا سلاحا ، أكلتهم جرثومتها من الداخل وأرخت بظلالها على تفكيرهم ومشاعرهم. كتب فلوبير : « المروع في هذه الحرب انها تجعلك شريرا ، قلبي الآن قاس كالحجر « ..بعض الذين شاركوا في الحروب أيضا أكتشفوا أنهم ارتكبوا خطأ فادحا (سيلين ) . كتب سيلين في روايته رحلة إلى نهاية الليل : «نظل بعيدين عن الرعب حتى نجرب الحرب ، ونظل بعيدين عن الشهوة حتى نجرب الجنس «.
كيف أفكر في الحرب ؟ الحرب عري فاضح للمنتصر والمهزوم ، إنها تجعل جرح الكينونة مضاعفا ، فأنا أنتمي لرقعة العنف المركب ، عنف الهوية الحضارية بحكم انتمائي إلى بلدان موسومة بتخلف الوعي بالقيم وتخلف العقل ،عنف الآخر المصاب برهاب هذه الهوية لكوني مسلمة ، وعنف الذات الموسومة بالضعف في ظلال الحروب والنزاعات باعتباري امرأة ، وقد ظهرت كل المؤشرات الدالة على تعقيد الوضع منذ الأيام الأولى لهذه الحرب التي أبانت عن فشل المنظومات القيمية في لجم العنف الإنساني ، كما أبانت عن أن الحكمة العقلية لم تستطع تعطيل القوة الغاشمة في بناء مجتمع إنساني قائم على الحوار .
لقد ساد الاعتقاد بأن الحرب في البلدان التي لا تؤمن بالقيم الإنسانية ولا تضع اعتبارا للعقلانية ، أمر مبرر، بل مسوغ منطقي لحروب أعنف وأقوى باسم الحضارة وحقوق الإنسان وتقويض الفكر الظلامي ،وهكذا صرنا نعيش مع تلك الحروب ، نطعمها وتطعمنا ، نفر منها إليها ، وترحل منا إلينا ، حروب لا مأمن منها ولا منجاة .تلعب فيها الأخبار والصور تأثيرا كبيرا على نفسية المواطن وقناعاته. فيخيم القلق والإحباط وتستشري الظواهر التي تكاد تصرخ : يا إلهي كل شيء يسير بشكل سيء !
غير أن الحرب على أوكرانيا هي حرب مختلفة ، كونها في أرض الآلهة ، في رقعة العقل والحكمة تحت أعين أفلاطون ، وغير بعيد عن عالم المثل الذي شرعن قتلنا وتفقيرنا وتجهيلنا ، لأننا بعيدون عنه بما يكفي لتحويل بلداننا إلى جحيم أرضي لا خلاص من فوضاه وحروبه . و لكنها هي نفسها الحرب التي جرعتنا وحشيتها وأرضعتنا من أثداء الشر … خراب وقتل ونزوح واغتصاب …
يوم آخر الآن : أفكر في رحلة جديدة مع رواية سيدهارتا لهرمان هسة ، لون الستائر الغامق يشعرني بالانقباض ، شرفتي تتسع لمزيد من الأغراس ، تصور لو وقعت الحرب ..سيأتي الغرباء إلى بيتي ، جنودا ربما ، وسيرون كم أن المكان ينضح بي ، كما لو أنني خرجت للتو لقضاء غرض سريع وأعود بخبز ساخن وباقة ورد ، سيعبث هؤلاء الأغراب في غيابي بكل شيء .. الأشياء التي انفقت أكثر من المال لتكون كما أحب ..تبا إنها الحرب !