وقت مستقطع من الحرب (46) . .عبد اللطيف النيلة: استعارةُ الحمام والدبّابات

الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

 

سِرْبُ حمام يدرج على أديم الأرض، بإيقاع وادع، يستنشق عطر التراب، يلقط الحب، يحط على أغصان الزيتون، ينتشي بدفء الشمس وهبات النسيم، يهبط فوق العشب الأخضر، يدنو أفراده من بعضهم البعض، يتخاصرون ويتحاضنون وتشتبك مناقيرهم في قبل دافئة.
يفرد سرب الحمام الأجنحة ويقلع بشغف صوب السماء، يحلق في الأعالي، معانقا زرقة السماء المضاءة بنور الشمس، يجترح أشكالا هندسية بديعة عبر حركات رشيقة متموجة، وهو يتقارب حينا ويتباعد حينا آخر، يرسل هديلا رخيما يهز، في طرب، أوتار الهواء، ويرسم، برهافة حس، قلبا مشعا بوهج البياض، هائلا بحجم الكون.
دبّاباتٌ سوداء، مثقلة بالوعيد، تزحف فوق جسد الأرض، فتنسحق تحت عجلاتها المعدنية مسام التراب وهمس النباتات وأنفاس الهواء. هديرُها سعارٌ عدواني يبث الرعب في كل كائن يرتعش بالحياة: الطيور، الفراشات، الأشجار، الأنهار، الأطفال، النساء… وحتى الرجال والجبال. برشاقة متعجرفة تدير مدافعها نحو كل الجهات، تهدد الأمان والأمل والبناء، تقصف، بلا رحمة، أشجار الزيتون الحقول البيوت المدارس المصانع المساجد الكنائس المتاحف المكتبات الملاعب… تروع القلب والروح والعقل، تكدر زرقة السماء بلون رصاصي وتضرجها بدماء الحمام.
استعارةُ الحمام والدبّابات تترجم ما يختلج في الحس والفكر والوجدان تجاه الحرب. تُقرَع طبولُ الحروب باسم الحق أو المصالح أو الهوية أو العقيدة. لكن مهما كانت الذرائع التي تخاض بسببها الحروب، ومهما كانت المسوغات التي تساق لتبرير اقترافها، فإنها تبقى فعلا لا أخلاقيا ولا إنسانيا، فهي على حد تعبير كانط «ليست سوى الوسيلة البائسة التي يضطر الناس للجوء إليها في حالة الطبيعة للدفاع عن حقوقهم بالقوة». إن الحرب تجسد أقصى عنف يمارسه الإنسان ضد أخيه الإنسان، فهي تخطيط منظم لتحطيم العدو، عبر تكبيده خسائر مادية وبشرية، بغاية انتزاع الانتصار. وإذا كانت «السمة الأساسية للعنف هي أنه يجب أن تكون وراء الفكر والكلام والفعل نية عنيفة، أي رغبة في إلحاق الأذى والألم بذاك الذي يعتبر خصما»، على حد قول غاندي، فإن الحرب، كمسرح لتجلي أكثر أشكال العنف ضراوة ووحشية، تعبر بقوة عن هذه الرغبة. ومن ثم، فإنها تتقهقر بالبشر إلى لحظة المواجهة البدائية، حيث تتحول الذات إلى حيوان مجرد من القيم، مستنفر المخالب والأنياب للانقضاض على الآخر، حفاظا على وجوده، وحماية لخيراته. لهذا، ليس من المستغرب أن يُنَزِّل المتحاربون شعار «الغاية تبرر الوسيلة» على أرض الواقع، ضدا على الضوابط الأخلاقية والمبادئ الإنسانية، فتتأجج نيران الحرب متوسلة بالكذب والخداع، وإزهاق الأرواح وترهيب الأنفس، وتخريب العمران، والإجهاز على الأخضر واليابس.
ربما يبدو من قبيل الحلم الطوباوي أن نحلم بعالم ينعم بسلام مستديم، تُنْصَبُ فيه المشنقةُ للحرب بجحيمها وويلاتها. والمفارقة المقلقة أن ازدهار الحضارة، لا يكبح جماح الحرب ولا يخمد جذوتها الكامنة تحت الرماد، بل إنه يزودها بالوقود، عن طريق إنتاج أسلحة متطورة تقصف الأرواح والأهداف بدقة بالغة. غير أن صوت العقل وحكمة الروح يقتضيان التشبث بحلم السلام المستديم، والعمل الدؤوب على ترجمته واقعا ملموسا بين الشعوب، من خلال تربية تهذب النوازع العدوانية، وتوجهها للتصريف في حقول الرياضة والفن والأدب والفكر، ومن خلال التشبع بحقوق الإنسان، وإشاعة قيم التعايش والتواصل والتسامح والديمقراطية، فضلا عن إرساء مؤسسات وتسخير آليات لنبذ العنف وإخماد فتيل الحرب…
لقد قُدِّر لجيلي أن يعاصر عددا من الحروب التي دارت رحاها على أراض أخرى، لكننا كنا مجرد شهود عليها، من بعيد، عبر أخبار الجرائد وشاشة التلفاز وما يتداوله الناس. وما زلت أذكر كيف تابعت، بترقب مهموم وقلب موجوع، وقائع العدوان الهمجي على شعوب نتقاسم معها وشائج الدم واللغة والدين والتاريخ… لكن نفسي لم تمل يوما إلى كتابة قصص تحت ثيمة الحرب، رغم أني استمتعت بأعمال فنية وأدبية تستوحيها، كفيلم «الحياة جميلة» لروبيرتو بينيني، ورواية «الدكتور جيفاكو» لبوريس باسترناك، وقصة «الأشياء التي كانوا يحملونها» لتيم أوبراين. مع ذلك لا يفوتني أن أشير إلى قصتين قصيرتين، من بين قصص مجموعاتي الخمس، استلهمت فيهما ثيمة الحرب بشكل ما: الأولى هي «المستوحشون»، حيث أتخيل وقوع حرب ضارية شنتها الكتب المستوحشة على الناس انتقاما من عزوفهم عن القراءة، والثانية هي «كتاب الأسرار»، حيث أتخيل غزو دولة لأخرى ووضع يدها على كتاب أسرارها العسكرية والاقتصادية…


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 04/06/2022