وقت مستقطع من الحرب -48- زهير فخري: ما يكتب في أزمنة الحرب ليس رديئا بالضرورة !

الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

الحرب فعل قتل ناكص.. يقترفها «الكبار» مدفوعين بفائض الأنانية والجشع وبمنسوب عال من الرغبة في التسيد على الأرض والعرض. وهي أيضا إعلان (ربما لا شعوري) عن الجزء المتوحش المستور من هوية البشر، أي عن منسوب الطبيعة الحيوانية السائبة في الإنسان. «الإنسان حيوان عاقل» قاعدة عتيقة تسكت عن الوجه غير العاقل للإنسان، الوجه المتخفي الذي يفضحه التاريخ باستمرار. تشتعل الحرب فيقذف بنا مكرهين في أتونها ونقحم قسرا في مدارها، حتى إن لا أحد ينجو من مخلفاتها. يبدو لي أحيانا كما لو أننا نستأنف حروبا مضت كان الأجداد أوقفوها للاستراحة، أو لحسابات وحدهم يعلمونها. من ينازع، والحالة هذه، في أن الإنسان كائن حربي؟
ولئن كانت الحرب فعل تدمير يطول العمران والبشر والحيوان على السواء، فإن لها آثارا وخيمة تنعكس على دواخل الأحياء، وعلى سلوكهم وأمزجتهم بل وعلى نمط عيشهم. لكن كيف يواجه هؤلاء العزل (وضمنهم المثقفون والشعراء والفنانون والكتاب) الحرب؟ هل تستطيع ذخائر الأسلحة الرمزية إخماد نار الحرب والتحكم في تبعاتها؟ كيف يتدبر حاملو الكلمة زمن الحرب؟ ومن أي باب يدخلون إليها إن هم دخلوا؟ وهل بإمكان ما يُكتب أن يؤجل الموت قليلا؟ أسئلة كثيرة حارقة تطفو على السطح في زمن سطوة السلاح، زمن تتعاظم فيه احتمالات الموت وتتعكر الأمزجة ويتضخم منسوب الخوف في الأفئدة، زمن يقذف فيه الناس بدون رحمة إلى خطوط التماس بين الموت والحياة…
في زمن الحرب يكتب الكاتب ما قد يعادل دمعة أو حلما أو يأسا أو شهقة أو زفرة. يكتب بيأس كبير كبير لإدراكه بأن ما يكتبه لن يطوع الأهوال ولن يرجع القتلى مثلما لن يبطل مفعول رصاصة مصوبة في اتجاه القلب. ومع ذلك قد يقر بضرورة ما يفعل دون أن يعرف لماذا، كما جاء في إشارة ل(جان كوكتو) عن ضرورة الشعر. أو لعله قد يلتمس للكتابة مبررا يحصره مع الشاعر التونسي الراحل (الصغير أولاد أحمد) في «غاية رفع المعنويات»، أو مع (نزار قباني) في لزوم أن تكون الكتابة «عملية استشهاد على الورق» وليس عليها أن «تهرب من الجندية»… غير أن كثيرين يصمتون إبان الحرب إلى حين، وفي تقديرهم أن كتابة الحرب كمناسبة جارية لا تسيء إلى الحرب فقط، بل تسيء إلى الكتابة ذاتها أيضا، لأنها باستعجالها تضيع شرطها الفني والجمالي. يريد هؤلاء وقتا كافيا ومسافة «ضرورية» للاهتمام أكثر بما يكتبون (هل هي أنانية منهم؟)، حتى لا تصاب كتاباتهم بالابتسار وتصير بعد الحرب مجرد وثائق للتأريخ، وحتى لا تفقد مقوماتها الأدبية التي تجعلها منفلتة من زمنها الضيق. مع هذا الموقف أستذكر موقفا مغايرا وطريفا وجهه شاعر كبير هو (ممدوح عدوان) لمن صمتوا من الكتاب والشعراء والمثقفين العرب، الذين كانوا مقيمين في لبنان إبان الحرب الأهلية، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إذ صرخ فيهم أن: «اكتبوا شعرا رديئا!». وبالطبع لا يمكن أن يكون هذا مقصده، إنما أراد القول: اكسروا جدار الصمت واكتبوا ما تدعونه «شعرا رديئا»، وفي هذا إحالة ضمنية إلى أن ما يكتب في أزمنة الحرب ليس رديئا بالضرورة. هل كان ممدوح عدوان يتهكم بصرخته تلك؟ ربما. على أي فقد بدا لي بهذا الموقف كما لو كان يصرخ مع نزار قباني أن «مكان هؤلاء الأساسي هو خط المواجهة» وأن عليهم أن يمارسوا «عملية الإنقاذ بالشعر».
إذا افترضنا أن أكون أمام خيارين في زمن الحرب أو في زمن السلم حيث لا سلم: أن أوثق بالصورة لحظة احتراق شخص، أو أسارع لانتشاله من لجة النار؟ سألقي بآلة التصوير وسأهبُّ بعينين مغمضتين لإنقاذه. سأفعل خوفا من تأنيب الضمير.


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 07/06/2022