وقت مستقطع من الحرب -53- عبد الله لغزار: جاءت الحرب إلى بيتنا الصّغير

الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

 

(تستهويني مطالعة القواميس لأنني دائماً في حرب مع الكلمات)؛
حارَبَ (فعل). يحارب مُحاربة وحراباً. حاربَ العدوَّ: قاتَلَهُ وقاومه. حارب الله: عصاهُ وكأنه أقام عليه الحدَّ. يُحاربُ طواحين الهواء: يعيش في الأوهام. حَرَّبَ (فعل). حرَّبْتُ، أُحَرِّبُ، حَرِّبْ مصدر تَحْرِيبْ. حرَّبَ صديقَهُ: أغضَبَهُ. حَرَّبَ عليه الرّفاقَ: غضَّبَهُم عليهِ، حرّضَهُم. حرَّبَ السِّنانَ: شحذَهَا، حَدَّدَهَا. وحَرَبَ (فعل). حَرَبَ يَحْرُبُ حَرْباً فهو حَارِب، والمفعولُ مَحْرُوبُ، والجمع: مَحاريبُ وهو حَريبُ. والجمع: حَرْبى وحُرَبَاء. حَرَبَهُ حَرَباً، سَلَبَهُ جميع ما يملك. حَرِبَ (فعل)، حَرِبَ الرّجُلُ: اشْتَدّ غَضَبُهُ. وحرِبَ الرّجُلُ: قال:
وَا حَرَبَاهُ، وَا أسَفاهُ، وَا حُزْنَاهُ.

(…)
كاتبني الصّديق «سعيد منتسب» الصحفي والكاتب المتعدد، يطلب رأيي في الحرب؟ لم يكن السؤال مباشراً بهذا الشكل، بل قدّمَ له بكلمة مقتضبة رسمت بشاعرية الأسباب والحيثيات التي أملت السؤال… الْتفَتَ إليّ مشكوراً مُعْتَبِراً إيّايَ من الذين تشغلهم شؤون الفن والأدب. قلتُ في نفسي، ماذا عساني أقول عن الحرب يا سعيد؟ وأخذَ السؤال يشتغلُ فيَ… هناكَ مقولات وآراء ونصوص كثيرة لأدباء وفنانين ومفكرين مرموقين عاشوا الحرب أو فتنتهم لما لها من قوة كارثية على المَحْوِ، وعلى تكثيف الخوف والألم والحقد. بله الحرْبُ تُؤَلّبُ العَدَمَ على الإنسان والأرض.
ماذا سأقولُ يا سعيد يا صديقي؟ أهرقت الحرب عبر تاريخ البشرية الطويل أنهاراً من الدّماء ومن الدموع، وأفَاضَت مِداداً كثيراً… لكن، رأيي (أنا) في الحرب وفي الآن… الآنَ؛ أعيش حرباً مع المرض؛ مخلفات كورونا اللّعينة. والحربُ كالمرض تؤثر على السلوك وعلى النظر. الحربُ تلتهم الأخضر واليابس. هناك لوحات عديدة (عابرة للتاريخ) مجّدت الحرب ولوحات أدانتها؛ لكن بين مُمَجِّدٍ ومُدينٍ، هناك جحافل من الضحايا الأبرياء.
هناكَ من قدّسوا الحرب وما زالوا (الحروب المقدسة المُطَهّرة). قرأتُ مثلاً، الحروبُ تشنّجات قصيرة في حياة سلام طويلة وممتدة. وقلتُ لنفسي، لكن التاريخ البشري (كُلّهُ) مكتوب بالحديد والنار. وقرأتُ لفيلسوف مجهول قال: «إن لم تذهب إلى الحرب جاءَت إلَيْكَ». وبقيتُ ساكتاً أنظُرُ للكلمة وللحرب التي تتربّصُ بنا من كل جانب. وقرأتُ أنّ العقلَ مُحاطٌ بالجنون والصحة مُطوقة بالمرض، والشعور بالخوف ملازم للكائن البشري، فهو دائماً في حالة استنفار قصوى دون أن يعي ذلك. البشري كائن عدواني؛ كالْحَنَشِ يهْجُمُ من الخوف… وسمعتُ صحافياً خبيراً في شؤون الحرب يقول، الحرب هي لغة العالم.
لكن، ماذا قلتَ أنتَ. أنا؟ نعم، ماذا قلتَ في هذه (النازلة)؟ وأنا أتأمل «الحرب» لا أعرف كيف طلعت في ذهني سُورةُ الوَاقِعَةِ: «إذا وقعتِ الواقعةُ»… ثم سمعتُ في داخل أذني قارئاً يقرأ: «إذا زُلْزِلُتِ الأرضُ زلزالها»… وانْضَغَطَ رأسي بسبب تلاطم الصور والأصوات التي تصطخب فيه؛ ثم سمعتُ: أنا لا أستطيع أن أفكّر. ثم أصوات كثيرة تُرْعِدُ في سماء رأسي؛ وسمعْتُ: أنا لا أستطيعُ أن أفكّر… قلتُ في نفسي، ربما الحربُ هي العجز (التّام) عن التفكير.
ربما أنا في حالة حرب. لكن، من هو العدو ومن أين سيأتي؟ من الماضي؟ من الحاضر؟ من الدّاخل؟ من الخارج؟ من السماء؟ من البحر… وفي لحظة لا أعرف كيف تذكّرتُ جدّي، إذ حارَبَ مع فرنسا الغازية المُسْتَعْمِرَة ضدّ ألمانيا النّازية. كان يقول لي، كُنّا مع «كُومْبَطَا» (combattants) أخذونا لنُقاتِلَ «هتلر» لأنه (مَرْمَدَ) فرنسا (أيْ رَمَدَها: أهلكها وأتى عليها).
أوّل مرّةٍ (ربما) سمِعْتُ فيها كلمة «حرب» كانت في حضرة هذا الجَدِّ، هو يُسَمّيها: «الكَيِرَّةْ»((la guerre. ومن هذه الشرفة، قد أجزم أنه كان يتحدّث عنها بازدراء. وفي مَقْطَعٍ من حكاية عاودها لي مرّات يقول، في ذلك النهار ظلّ الرصاص يتساقط علينا كالبلّوط (ثمار البلوط). سكتَ نظرَ إليّ ومَدَّ يَدَه اليُسرى إلى وسط كتفه الأيمن واستطرد، إنّ «القُرّانَةْ» (التّينَةُ القاسِحَةُ) التي نَبَتَتْ هنا (وكان يتَلَمَّسُها بسبّابته ووُسطاه)، سببها رصاصة كانت ستخترق صدري من الظَّهْرِ. حفظني الله لأنني حَنَيْتُ إذ مدَّنِي جندي ألماني جريح صورة فيها أُسْرَتَه، مَدَّني بالصورة وهو يبكي ويتوسَّل قائلاً ما مفاده «هذه أسرتي تنتظري». وفي اللحظة التي حَنَيْتُ نَشَطَت الرصاصة كتفي. الحربُ تَعْطِبُ يا ولدي.

لكن من سمىّ الحرب العالمية الأولى حرباً عالمية أولى؟ من سمى الثانية حرباً عالمية ثانية؟ من سمّى الحرب الباردة؟ لكن… لكن، الحروب ظلّت تتناسلُ مُسْتعِرة في كل جهات الأرض، فأين غاب الذي كان يُحْصيها ويُسمّيها؟ لم يلتفت إلى الجنوب، إلى محرقتنا؟ لماذا؟
أَنَسِيَ هذا (الغَرْبُ) الثالثة والعراق والخامسة وسوريا واليمن والسودان… أمْ أنّ صَنّافَة البَشَرِ عندهُ لا تشملنا؟
ربما، من حظنا نحن الذين نعيش هذه اللحظة، أننا نشهدُ على تحول عميق يعرفه التاريخ؛
إننا في منعطف خطير، تجاوزه لن يكون بلا أضرار، لكن ستعرف الإنسانية دورة جديدة.
الحرب تُعري عن النوايا، تكشفُ الخبايا، وتدفنُ في الأرض بُذورَ أحقادٍ ستزهر في المستقبل.
ماذا ستزهر؟
لا أعرف، لُعْبَةُ الأمَلِ خطيرة ومُثيرة ومحيّرة كعادتها.

تصاحَبْتُ مع شاب من بلاد «اليمن» الشقيقة؛ شاعرٌ لطيف اسمه «إسماعيل حسن». له ذائقة شعرية فائقة السّرعة من الرصاصة، وعاشقٌ للكلمةِ اللُّغْم، ومُتذوّق من درجة قنّاص/ نَسْرٌ مَلَكي.
يلتقطُ فقرات وشذرات لشُعراء وكُتّاب من كلّ بقاع الأرض في غاية الروعة. يلتقط بحاسّة ثامنة، حاسّة جرّبت الحرب، يختارُ نصوصاً تضع القارئ وجهاً لوجه مع فاجعة (الحرب)، ويرفقها بصور غاية في الجمال والبؤس والألم.
وهذا الشاعر الرقيق غاب فجأة عن الفضاء الأزرق، غابَ لأكثر من أسبوع؛ ابتداء من 28 مارس 2022. سألتُ عنه. تركتُ له رسالة في المسنجر وجاءني الجواب كالرصاصة؛ إذْ بعثَ لي بصورة وهو على فراش المرض وكتَبَ تحتها:
«أنا تعبان جدّاً يا أخي».
و(ربما) لأجل أن يتعافى حسن ومن خلاله شعب اليمن الجريح، سُقْتُ، هنا، نصاً لَهُ، ومقتطفات من نصوص ينتقيها (هو) بجُرْحِه وينشرها على حائطه:
(…)
جاءت الحرب إلى
بيتنا الصّغير
كسرته وأخدتني
اعتقدتُ من دويّ جُرحي
أنّني رصاصة
«إسماعيل حسن الطيب»؛ اليمن.

(…)
في وطَنِي
الجدارُ الذي يَسْلَمُ
من الشظايا والرصاصِ،
لا يسلمُ من مساميرِ
صُوَرِ الشهَداءِ!
«أحمد ناصر»؛ العراق.

(…)
أنا أحد القتلى بمعركة لم أخضها
هكذا وببساطة؛
جاءوا الى بيتي
طرقوا الباب
سلموني جُثتي وانصرفوا…
«عبد الله الإحيمر»؛ السودان.

(…)
أخْرِجْ لنا من قُبَّعَتِكَ بلاداً، أخْرِجْ لنا أمّهاتٍ لا
يَمْرَضْنَ وأصدقاءَ لا يهاجرون، أخْرِجْ لنا بُيوتاً لا
تعرفُ الحربَ عناوينها، فقد سئمنا الأرَانِبَ أيها
السّاحر.
«كاتيا راسم»

………………………
كتبتُ كتلميذ في امتحان نصا طويلا مرتبكا. قرأته وحذفته على الفور.
ثم لم أعرف كيف أكتب… (بسؤالك عن الحرب يا سعيد) أرسلتني إلى الحرب.
(فَ) متى سأعود لأخبرك عنها؟


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 14/06/2022