وقت مستقطع من الحرب (54) : جامع هرباط: تحول الموت إلى شهية

الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

 

تكون الحرب حيث يكون الاختلاف، ويغيب الحوار، وتتألم جسور التواصل، وتقوم أحيانا على التعصب، وقد قيل: كل حرب استعمار، لأنها تقوم على ثقافة الاستنزاف والاستغلال ولاستنفاد، يعيش الإنسان اليوم مرحلة متقدمة ومتطورة جدا، وتوسم هذه المرحلة بدرجة عالية من الفكر والاقتصاد والحضارة المادية الراقية والرقيقة، وقد استعمل وسائل تواصل تكنولوجي لا مثيل له، و هو الإنسان الأول، الذي شاهد وسمع وقرأ عن جميع حروب الدنيا في شاى الوسائل الرقمية، لكنه إلى اليوم هو نفس الإنسان، الذي لا يُقدر ثمن السلام، ولا يعير اهتماما لرمزية الحمام والألوان البيضاء، وهو المخلوق الوحيد الذي يعرف أنه سيموت، ورغم ذلك يندفع إلى الموت اندفاع المتهور.
لست أدري فيما كان البشر يفكرون حينما تشتعل قلوبهم بدوافع الحروب! هل هؤلاء الزعماء الذين يقدون الحروب ينظرون نمنظور آخر يجعل الحياة أكثر فسحة مما هي؟ هل يعتقدون في حياة أفضل قبل الحرب أفضل من حياتهم الحالية؟ أم هي نشوة الانتصار؟ أم وجدوة الانتماء؟ أو شعلة التعصب التي أشعلت الحروب من القدم إلى الآن؟
قديما كان الشعراء يخضعون المعارك، ويسمى الشاعر شاعرا وفارسا، وهو الذي يدافع بالاسم وما يخفيه الغمد، ويتداعى الفارسان بالشعر انشادا، والخطيبان بالخطابة قولا، وتحدث المعركة الكلامية قبل المعركة الميدانية، قديما وليس حديثا، للحياة قيمة قبل الانتصار، وتكبر القيمة بعد الانتصار، والموت قيمة بلا انتصار بعدم تفقد الحياة، الكل منتصر، لأن المعركة، معركة القيم النبيلة اعتقادا شريفا في الحياة والموت معا.
يحدث اليوم أن العالم بأسره، شاهد ويشاهد حروب الحياة المعاصرة باختلاف إيديولوجياتها وتوزيعها ولغاتها وبشكل مباشر، لكن أحيانا لا ينتبه انتباها عميقا وإنسانيا إلى قيمة الحياة والموت معا.
يحدث باستمرار ختم مقدم الأخبار نشرته بوفاة ألف جندي ومدني، بقولته الشهيرة: انتهت نشرتنا الزوالية، شهية طيبة.
لقد تحول الموت إلى شهية بدون قيم روحية كونية، وقد تحول إلى عنصرية مقيتة تقتل المساواة، حينما يميز السادة بين الشمال والجنوب، وقد تحول الموت إلى تجارة حينما تكون الحرب معلنة للسيطرة على الأرض وما تحتها، وقد تحولل الموت إلى سرقة سابقة الإصرار حينما يسرق من المتزوجين أحلامهم وأنصافهم وحياتهم بكاملها بلا رجعة، وقد تحول الحروب إلى أفلام سينمائية ومسرحيات ولوحات فنية، تقرع لها الطبول كما في القديم والحديث، لأن الموت صراحة طبل، والحرب طبول مخيفة تسكت الرضع وتجعل كل ولادة مبتورة، عقيمة، خرساء، عرجاء، متشائمة، فاقدة الوعي والإحساس، فاسألوا العائدين من جحيم الحروب، ولا تسألوا رواد دور السينما.


بتاريخ : 15/06/2022