نقاد وشعراء يعاودون رسم بورتريه عبد الله بلعباس في مدينة المحمدية
احتضنت مدينة المحمدية لقاء نقديا متميزا، خاصا بالإصدار الجديد للتشكيلي والشاعر المغربي، عبد الله بلعباس «مقام الإشارة»، اللقاء الذي نظمته كل من جمعية هوس ومؤسسة الأعمال الاجتماعية للتعليم فرع المحمدية، واحتضنه فضاء 5 أكتوبر، شارك فيه كوكبة من أهم النقاد بالمغرب، ويتعلق الأمر بكل من الشاعر والكاتب حسن نجمي، الشاعر والإعلامي عبد الحميد جماهري، القاص والمبدع أنيس الرافعي، والروائي والإعلامي سعيد منتسب.
لقاء انصبت المداخلات فيه حول زمنين أساسين في حياة المبدع عبد الله بلعباس، التجربة النضالية الطلابية اليسارية بالمغرب في الثمانينيات والتي تقاسمها الكاتب، مع عدد من رفاق الأمس القادمين من نفس الموقع النضالي، ثم الجانب الإبداعي الذي يتكامل فيه ما هو تشكيلي وشعري وفوتوغرافي…تداخل شديد جعل من ديوان «مقام الإشارة» فرصة لتسديد ديون المحبة …ولو بعد حين، عبر شهادات تعود لتقاطعات نضالية وإنسانية وإبداعية، حيث كان جيل جديد من الكتاب والمناضلين المغاربة يتشكل في رحم الحلم المشترك حينها.
الكاتب عبد الله بلعباس التي يحيط نفسه بكثير من الصمت، كان اللقاء فرصة لإلقاء الضوءعلى العديد من جوانبه الإبداعية بفضل الأوراق النقدية لجيلين من النقاد، جيل شاركه المسار الطلابي والسياسي وبداياته الإبداعية، وجيل آخر اطلع على تجربته الإبداعية بروح العصر ونظرياته النقدية.
و اعتبرت الدكتورة أمل بنويس في تقديمها لهذا اللقاء بأن « مقام الإشارة كعمل ينضاف إلى الريبرتوار الإبداعي المغربي المعاصر، لشاعر وفنان اختار درب الإشارة واستعاض بالشذرة عن العبارة، ..خط مساره الإبداعي بين ضفاف الشعر والفن التشكيلي ..» مضيفة «في تجربته لا تنفصل الفلسفة عن الكتابة، ولا ينفصل التشكيل عن الفكر، بل تنصهر كلها في قالب إبداعي واحد ينهل من التأمل العميق في الوجود وفي أشكال التعبير عنه، مداركه المعرفية وخبرته الجمالية، تتحول لرؤية تؤطر اشتغاله الإبداعي وتمنحه تلك القدرة على الحفر بالغة وباللون وعلى الكشف بصمت دون إملاء للمعنى….».
الشاعر حسن نجمي: عبد الله بلعباس شاذرا، يستأنف معاركه على أرض أخرى مصرا أن يظل
في وضع الناقد لذاته وتجربته
الورقة النقدية الأولى في هذا اللقاء، كان من توقيع الشاعر حسن نجمي، الذي كتبها من بحيرة الذاكرة و الصداقة، صداقة تعود إلى زمن الرفاق بكلية الآداب بالرباط والتقاطعات الانسانية والنضالية للكاتبين معا، مكان وزمان التقت فيهما تجارب الكثير من المبدعين المغاربة قبل أن يعبروا نحو مساراتهم الشخصية. يقول الشاعر حسن نجمي راسما بشاعرية كبيرة بورتريه الكاتب عبد الله بلعباس: «منذ عرفته، لم يتوقف عبد الله بلعباس عن الرسم والتخطيطات، ظل باستمرار يتجدد وبجدد نفسه ويطور علاقته بالحبر الصيني بالأقلام ، بالألوان وبالورق الصقيل غير اللماع، كان له صبر ناعم وهو يمارس غوايته الجميلة العزلاء، محاطا بالصخب العام ، بالأناشيد الحماسية، والخطب اليسارية المتقدة ، من الساحات الطلابية للتجمعات السياسية ….وإلى الآن لا نعرف كيف كان ينأى بشفافية روحه عن ضجيج العالم من حوله، دون أن يرتد لحظة عن خياره والتزامه وإقدامه،ودون أن تنكسر كأس حياته الشهي، كان يخوض الصراعات والمعارك متقدما الصفوف منظما مؤطرا وموجها، متميزا بكل صفات القيادة الذكية المتبصرة الملهمة، لكن أيضا بكل عفة ومروءة وبكل تواضع الولد النبيل الذي لم يبحث عن موقع أو صفة او امتياز أو بسطة أو سعة حتى لا يبدو مجرد مناضل بسيط من القاعدة وإليها…ثم كان يعود الى نفسه في آخر النهار وفي الليل، يتذكر أصابعه فينتحي جانبا في الظل يراقص ظلاله القريبة والبعيدة، يرسم.. يكتب..و يعيد اكتشاف الواقع، مجددا تجربته ونظرته وحسه الرائع، كان عبد الله بلعباس حين عرفته أول مرة، البارحة فقط… قبل 45 سنة !!…مثقفا له عمقه وأفقه ومنظوره للوجود والعالم والأشياء والناس، يقرأ دون توقف ويخوض النقاشات دون عياء أو ملل…»
ثم يضيف متحدثا عن مفهوم الكتابة لدى الشاعر عبد الله بلعباس: « يكتب عبد الله نصوصه الصغيرة كقطع ذهب مشكلا عقدا أنيقا، متوسلا الأشكال القصيرة الموجزة المقتضبة، الشذرة والهايكو والومضة، وفي العمق فهو يكتب داخل فكر شذري له جذوره العميقة في الثقافة الانسانية….هذه الشذرية تشبه نوعا من التعري أمام القارئ، فأنت تكتب ذاتك كما لو كنت تتعرى من لباسك، قطعة قطعة، ومن كيانك كله فكرة فكرة، وإحساسا إحساسا..
لا يجلس الشاعر ليكتب كتابه دفعة واحدة، الشذرات لحظات حياة… إنها كتابة مقاومة في جوهرها وفي شكلها… كأن عبد الله بلعباس شاذرا هنا يستأنف معاركه على أرض أخرى مصرا أن يظل في وضع الناقد لذاته وتجربته ولذوات الآخرين وتجاربهم وكذا للغته ولغات الآخرين، متأملا أحوال المدينة والبلاد والعالم والوجود، و «إذ تنهكه الأجوبة/ ويتكلس شكه /وتستنفده لغته/ يحلق بعيدا / كي يرى نفسه باحثا عن جرعة هواء/ في صدر عازف ناي ..ولأن الذاكرة تسكنه، يهرب ليسكن في مرآته».
عبد الحميد جماهري: استعصينا على الرتابة، بفعل ما بذله بلعباس من نبل وعمق حتى يحمي صداقتنا من النكوص
ورقة الشاعر حسن نجمي كان لها وقع خاص على الشاعر والإعلامي عبد الحميد جماهري، الذي اعتبر شهادته بمثابة صوت ولسان المجموعة التي انتمى لها جيل كامل من أهم الكتاب المغاربة. وفي ورقته، وهي أيضا شهادة إنسانية وتاريخية عن علاقته بالشاعر عبد الله بلعباس، وتقاطعاتهما في الكثير من المحطات الأساسية في حياة كل منهما، يقول الشاعر والإعلامي عبد الحميد جماهري: « أريد أن أبدا بالقول إنني أجدني في كل لحظة انتقال في الحياة، سواء انتقال مكاني أو وجودي إنساني، إلا وأنا أتقاطع مع عبد الله بلعباس، وأنا قادم من جغرافيا الشمال الشرقي إلى غرف بيته أو أنا قادم من التعليم إلى التجربة الصحافية، كان بلعباس دائما يجاورني بإنسانيته الاتحادية الشبيبية، وأحيانا يجاورني في مأساوية المسؤول الصحفي، وأنا أخرج أكاد أكون كافرا من تجربة السياسي، مرة قلت كما يقول صوفي: ماذا لو كان عبد الله يعرف كلمات لا حروف لها، قلت سيعرف نوايا الماء،أضفت سيحدس لا شك وساوس الحبر، وأكاد أجزم أنه سيتلمس ظنون الكاميرا التصويرية الذي يجيدها ويحبها ويخفيها أيضا…» ويضيف الشاعر جماهري في ورقته النقدية : «أقول منذ البداية أن الملغز والجميل والساحر مع عبد الله بلعباس هو أن طراوة اللقاء به الأولى لا تتغير ولا يغور معناها، أليست الصداقة في ومع عبد الله بلعباس أن تجد الكائن الذي يتكلم أفضل منك عن مخاوفك، ويعبر أفضل منك عن هواجسك؟ وتجد الكاتب والشاعر والمناضل الذي يرمي بلاغته على عينيك حتى ينقذك من عناء يتربص بك؟ عبد الله بلعباس معه يستمر جيل خصبت السياسة وجوده، وجعلت الصداقة قدرا مصاحبا وسلطة قائمة، في خضم هذا الجيل كان بعضنا يختبئ مثل الرصاص في كبسولات شعرية، وآخرون في غيوم الدخان والافكار، وصنف ثالث في سب الزمن المقيت.. مضت عقود ولم نصدق النسيان أبدا، واستعصينا على الرتابة، بفعل ما بذله عبد الله بلعباس من نبل وعمق حتى يحمي صداقتنا من النكوص..حين عرفت عبد الله بلعباس في ثمانينات الشبيبة وتطلعات النضال السياسي، كان المغرب يمتد من الشهيد إلى قصيدة النثر، وكان عمرنا أقل من 30 شتاء، والخريطة الشاسعة للبلاد أوسع من كل حلم سياسي، لكن الخريطة السرية للمحبة تمتد من حي الجوهرة الى سيد العابد، الى مقهى طارق، إلى رصيف سيدي بوزيد وإلى أدغال إفران…ومعه عرفنا الحدود لكنه أجبرنا على الإقامة في التخوم بين الأدب و الفلسفة، بين السياسة والتصوير، بين النضال والتشكيل، بين الصمت والسخرية..و قبل ذلك كان لا بد أن تعمدنا الحاجة والدته وكان لا بد أن ننهزم أمام شموسها الكبيرة، لنتمرن على أمومتها، أكثر قوة وأكثر حبا لبعضنا ، كانت يدها البيضاء تمتد ساحلا لكل بحور الشعر وموجات الإنساني فينا، أقول وأنا على مشارف الستين أو بعدها، لولاها تلك السيدة العالية لما صححت طفولتي ولما أدركت أن الموج الأطلسي شقيقي …»
أنيس الرافعي: مقام الإشارة واختبار اختطاف المطلق ونحت الصمت…
من جهته اعتبر القاص والمبدع أنيس الرافعي وهو يقارب عوالم عبد الله بلعباس في ديوانه «مقام الإشارة» أن هذا الأخير هو كتاب طريق وأكثر منه شذرات شعرية أو فلسفية تأملية…
«اليد تبني
العين تحرس
اللغة تستأجر»
هو أكثر من شذرات شعرية أو فلسفية أو تأملية، كشاهد نصي على كل من الجوهر الفلسفي والمدماك الجمالي الذي شيد عليها هذا المؤلف المركب من سجلين مشتبكين، وصقعين متجاذبين، تتخاصر فيها الكتابة والتصوير، فيتناوبان ويتعاونان على إنتاج نظام مغناطيسي من الدلالات المضمرة أو المنكشفة. فها هي ذي يد الكاتب تنشئ عبر آلية الكتابة المقطعية، نصا مكثفا متقشفا، تليغرافيا مفتوحا على رياح المعاني والترميزات، له القدرة الذاتية على إعادة ضم ووصل أجزائه المفصولة وأطرافه المقصمومة…أما العين فتصون عبر جدليتي المرئي و اللامرئي، ما هو قابل للتشخيص والتمثيل، كي لا يظل متملصا من الخيال، ومستعصيا على الإرادة، على اعتبار أن العين هي آلة حاذقة لصيد المجهول، ذلك الذي لا يدركه الذهن، ولا تطاله بقية الحواس».
ويختم القاص أنيس الرافعي شهادته بالتأكيد على أن ديوان»مقام الإشارة» للشاعر عبد الله بلعباس «هو أكثر من شذرات شعرية أو فلسفية أو تأملية، كذلك هو أدهى من محاولة مجازية لتعويم مدينة الجديدة، في مياه أرخبيلات شبحية لا تدركها لا الرؤية ولا الحس، ولكن قد تستوعبها نمور الحلم والرؤيا عند بورخيس، وإنما هو كتاب طريق على طريقة المعلم لاوتسو، كتاب معلم سئمت نفسه من الكلام فمشى على خرقه، كي يصوغ كيانه وسيرته ومعرفته وحكمته ومكابداته وغصصه في مقطوعات صغيرة كحبات ثمار فلسفة الزن الصوفية …هذا الكتاب هو الرياضة الروحية العليا للفنان الكاتب عبد الله بلعباس الساعي بكل رصيده الثقافي والسياسي والفني والإنساني الثري والأغر لاختطاف المطلق ونحت الصمت…»
سعيد منتسب: «مقام الإشارة» حالة من التبادل الروحي مع اللغة التي ليست جسدا ثابتا
وتحت عنوان «اليقين الأعمى» في «مقام الإشارة» للشاعر والفنان عبد الله بلعباس، اختتم الروائي والكاتب سعيد منتسب جلسة الأوراق النقدية، في ورقة قامت بالتركيز على نبرة اليقين التي تخترق نصوص الديوان، يقول الروائي والقاص سعيد منتسب: « لا شيء يسمح بالشك في هذا الكتاب، كل الأشياء توجد على نحو مطلق، ولا تتغير إلا بمقدار ما تفعله مياه النهر في قاع النهر، أو ما يفعله سائل القهوة أو أي مادة أخرى عرضية، بالأشكال المائية التي تترابط في نظام واحد يتصل بمقام الإشارة، إذ يستخدم بلعباس رسوماته، الأسود وتدرجاته، في سياقات تأملية من أجل إحداث الأثر الوجودي أو التحولي المطلق، دون أن نزوع انعكاسي مع الشذرات. الأسود هو حالة الاحتجاب، عن الوجود الظاهري، العدم الذي يحتضن كل شيء، الغطاء الذي يحجب نور الحقائق الإلهية، الصمت التام والخلوة مع الله، حيث يتحقق الإخلاص والصفاء الروحي».
ويضيف الكاتب والناقد سعيد منتسب: «الإشارات نظام مميز لا مكان فيه لما هو خاطئ وما هو صحيح، فالكلمة تدعم بعضها، والسواد يتكئ على البياض، والألوان تتشابك، ليس لفائدة الشك، بل لفائدة يقين ما. لا مكان للتوهمات والتخيلات، وليس للكلمة في هذه «الإشارات « معايير تحدد استعمالاتها المعقولة، فاللغة ليست لعبة لقول الحقائق، حتى لو كانت متخيلة، ولا يمكن التعامل معها كصيغة تجريبية للقول، كما أنها ليست موقفا شعريا ….ألا يوحي «مقام الإشارة» وهو عنوان الكتاب بسياق تصوفي؟ فالمقام لدى الصوفية مرتبة من المراتب التي يطرقها السالك نحو السر الإلهي/ إدراك المعاني الخفية، بينما الإشارة رمز لا يدرك جوهره إلا الخاصة المحاصرين بصفاء الرؤية…) ويتعمق الدكتور سعيد منتسب في عوالم عبد الله بلعباس الروحية بالقول : « في كتابه مقام الإشارة، حالة من التبادل الروحي مع اللغة التي ليست جسدا ثابتا، كما أن الأشكال نظام جسدي يبدو أنه لا يعرف وجهته خارج اللغة وصيرورتها وتحولها…»
يقول بلعباس:
اسمك
أنت محموله
عنوان مؤقت
بينما يقول فتغنشتاين
لا يوجد جوهر ثابت خلف الاسم، الاسم مجرد وظيفة في لعبة لغوية
الاسم إذن ليس إلا أداة، اتفاق، علامة مؤقتة، وليس هناك هوية ثابتة، تبنى على اسم.
ويختم المبدع سعيد منتسب مداخلته بالقول «( يمكن القول إن بعض القناعات ليس ناتجة عن تفكير أو دليل، بل تفهم وتمارس كجزء من شكل حياة. هذا هو الإطار الذي يجعل التفكير ممكنا، هذا هو التشوير، هجران الأحكام الأساسية، أي وضعها خارج المسار الثقافي لفائدة «ما حدث وما سيحدث» أو لفائدة ما يسميه فتغنشتاين «حياة السنجاب».)
اللقاء الذي عرف جلسة توقيع كتاب الشاعر عبد الله بلعباس، كان مناسبة ليستمتع الجمهور الحاضر إلى عدد من نصوصه الجديدة، وأيضا ليعلن عن أعمال شعرية قادمة على الطريق إضافة إلى عدة معارض مبرمجة مستقبلا.