ولاية المتعلم الراشد على نفسه

تتجنب المنظومةُ التربويةُ الحديثَ عن إمكان استقلال المتعلم الراشد ـ عن ولي الأمر، أبا كان أم أما ـ بتدبير شؤونه المدرسية؛ كأن يحصل على “شهادة مغادرة” مؤسسته الأم، ويسجل نفسه بمؤسسة تعليمية أخرى بإرادته؛ أو يدون اسمه ـ بدلا من ولي الأمر ـ في الوثائق المتعلقة بحادثة مدرسية أو رياضية، وما ينتج عنها من تعويض مالي؛ أو يقوم بتبرير غيابه بنفسه، في الحد الأدنى من التصرفات الإدارية التي يقوم بها ـ في العادة ـ ولي الأمر نيابة عن المتعلم القاصر.
موازاة مع ذلك، تشترط الإدارة التربوية إحضار “ولي الأمر” في حالات متعددة، بشكل متساوٍ بين جميع المتعلمين، باختلاف أعمارهم، ومستوياتهم الدراسية: دون تمييز بين الطفل والراشد منهم. ويثير هذا الاشتراط مجموعة من الأسئلة المرتبطة بمدى تمثل المؤسسة التعليمية للنصوص القانونية المؤطرة للمجتمع، وعلى رأسها النصوص المتعلقة بتنظيم ممارسة الراشد لحقوقه، والتزاماته، واستقلاله القانوني والمادي بشخصه.
إن موضوعا من هذا الحجم، ذو صلة بفهم وتمثل الإدارة التربوية، وعدد كبير من الآباء للولاية الأبوية، والنيابة الشرعية عن المتعلم، حد إقصاء الأمهات، والراشدين من المتعلمين في الوقت نفسه؛ ويثير من زاوية نظر مغايرة التناقض بين اشتراطات الإدارة التربوية، والأفعال والتصرفات الشرعية التي يتيح القانون للراشد القيام بها دون تقييد؛ من قبيل تزويج نفسه، وولوج الوظائف المدنية والعسكرية، وشبه العسكرية؛ وخضوعه لأحكام القانون في الجنح والجنايات، وإبرام العقود والالتزامات، والتصرف في أمواله وممتلكاته المكتسبة عن طريق الإرث، أو التجارة، وما شابههما من طرق شرعية لاكتساب المال وإنفاقه.
كما يثير إمكان تدبير هذه الوضعيات ـ من منظور تربوي ـ بما يسهم في تقليص فرص النزاع بين “أولياء الأمور” والإدارة التربوية، والمتعلمين أيضا؛ ويؤمن ” تنظيم الحياة الجماعية، وضبط العلاقات بين الفاعلين التربويين داخل المؤسسة” (المراسلة الوزارية رقم 0346 ـ 20 بتاريخ 5 يونيو 2020 “في شأن مشروع النظام الداخلي النموذجي لمؤسسات التربية والتعليم العمومي، المتضمن لميثاق التلميذ”)، في انسجام تام بين مبدأ “سيادة القانون”، ومهام المؤسسة التعليمية، بوصفها مرفقا عموميا.
تَعتبرُ النصوصُ القانونيةُ راشدا كلّ إنسان ـ ذكرا كان أم أنثى ـ بلغ ثمانية عشرة (18) سنة شمسية كاملة من عمره، حسب المادة 209 من مدونة الأسرة؛ وهو السن الذي تكتمل فيه ” المسؤولية الجنائية ” عن الأفعال التي يرتكبها الشخص بإتمامه ” ثمانية عشرة (18) سنة ميلادية كاملة” (الفصل 140 من القانون الجنائي)؛ كما تكتمل فيه أهليته “للإلزام والالتزام” حسب الفصل الثالث من قانون العقود والالتزام، الذي استند ـ في هامش الفصل ـ إلى المادتين 209 و210 من مدونة الأسرة، في تحديد سن الرشد والأهلية باعتبارهما شرطين “للإلزام والالتزام”.
ويمكن التمييز داخل مفهوم “الأهلية” بين نوعين، هما: أهلية الوجوب التي تعني “صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق وتحمل الواجبات التي يحددها القانون”؛ وأهلية الأداء التي تعني “صلاحية الشخص لممارسة حقوقه الشخصية والمالية، ونفاذ تصرفاته” (الفصول 206، و207، و208 من مدونة الأسرة). غير أن تحققَ أهلية الشخص بنوعيْها، واكتمالَها، لا يتوقفان على بلوغ سن الرشد (18 سنة) وحده فحسب، وإن كان شرطا رئيسا لها. لذا، وضع المشرع ـ في باب أسباب الحجر ـ مجموعة من الضوابط “تنقص الأهلية، أو تعدمها” (الفصل 212). فالصغير الذي بلغ سن الرشد، ولا يستطيع التمييز، والسفيه، والمعتوه، يعتبرون ناقصي الأهلية؛ بينما يعتبر عديم الأهلية” الصغير الذي لم يبلغ سن التمييز، والمجنون، وفاقد العقل”.
واستثنى المشرع المصاب “بفقدان العقل بكيفية متقطعة”، وأكد ضرورة انتفاعه بأهليته كاملة في الفترات التي يعود إليه فيها عقله (217 من المدونة)؛ كما استثنى الصغير القادر على التمييز بإمكان جواز ترشيده قبل سن الرشد المحدد في 18 سنة: “إذا بلغ القاصر السادسة عشرة من عمره، جاز له أن يطلب من المحكمة ترشيده”، الأمر الذي يكسبه ـ بشكل خاص ـ “الأهلية الكاملة لإدارة أمواله والتصرف فيها” (الفصل 218 من المدونة).
من الواضح إذن، أن المتعلم الراشد مٌكتسِب ـ بقوة القانون ـ لأهليتَي الوجوب، والأداء معا، باستثناء الوضعيات الخاصة التي “تنقص أو تعدم أهليته”؛ ويمكنه ـ بفضل ذلك ـ “مباشرة حقوقه وتحمل التزاماته” (المادة 210 من مدونة الأسرة)؛ في الوقت الذي يعامل فيه داخل المؤسسة التعليمية، معاملة القاصر، وتمنح فيه المنظومة التربوية حق التصرف في شؤونه، ووضعياته المختلفة تجاه الإدارة التربوية ، إلى “ولي الأمر”.
إن المساواة ـ في الإجراءات والتصرفات الإدارية ـ بين جميع المتعلمين، باختلاف أعمارهم، ومستوياتهم الدراسية: دون تمييز بين الطفل والراشد منهم، لا تخدم تكريس مبادئ “سيادة القانون، والمساواة أمامه، وإلزامية الامتثال له”، كما نص على ذلك الفصل السادس من دستور 2011؛ ويمكن أن “تزيد الطّينَ بلّة”، حينما يمتنع البعض منهم، أو جلهم عن إحضار “ولي الأمر”، متعللا ـ في ذلك ـ بكونه راشدا، مالكا لحقوقه، ومسؤولا عن تصرفاته؛ فيمعن في الغياب، والتمرد على تصرفات الإدارة، مرابطا عند مدخل المؤسسة، علّه يظفر بعطف، أو استثناء مؤقت من قرار سابق. وهو أمر لا يمكن الاستهانة به إذا أدركنا أن الراشدين يشكلون نسبة هامة من المتعلمين بمؤسساتنا التعليمية.
تفيد نظرة سريعة إلى ما ورد في ” موجز إحصائيات التربية” المنجز من لدن وزارة التربية الوطنية عن الموسم الدراسي 2018 ـ 2019، أن مجموع المسجلين بالجذع المشترك ـ من المتعلمين الراشدين ـ بلغ 36753 متعلما؛ من أصل 326437 متعلما، أي بنسبة 11,25 بالمائة؛ بينما بلغ عدد المسجلين بالجذع المشترك ـ بوصفهم مسجلين جددا، أي منتقلين من الثالثة ثانوي إعدادي إلى الثانوي التأهيلي ـ 26636 متعلما، من مجموع 266347 ، أي بنسبة 9,99 بالمائة؛ كما يبلغ عددهم بالمستويات الدراسية الثلاث بالثانوي التأهيلي 159668 متعلما، وهو ما يمثل نسبة 15,67 بالمائة من مجموع متعلمي هذا السلك البالغ 1018477 يضاف إلى هذه الأعداد المتعلمون بسلك التعليم الثانوي الإعدادي الذين بلغوا 15 سنة أو أكثر، والذين سيصلون إلى التعليم الثانوي التأهيلي بعد ثلاث سنوات أو أقل، ومعظمهم في 18 من عمرهم فما فوق.
أما المسجلون الجدد بالسنة الأولى من التعليم الثانوي الإعدادي فيبلغ عددهم 24152 من أصل 191434 بنسبة 12,61 بالمائة، بينما يصل عدد المتعلمين بمستويات التعليم الثانوي الإعدادي من الفئة العمرية 15 ـ 17 إلى 546358 من أصل 1737240، بنسبة 31,44. يضاف إليها المتعلمون بالثانوي الإعدادي الذين بلغوا 18 سنة فما فوق، وعددهم 42578 بنسبة 2,45.
لا شك في أن المتعلمين الراشدين يشكلون ـ مما سبق من معطيات كمية ـ نسبة دالة بجميع المستويات الدراسية بسلكي التعليم الثانوي، والمجال الحضري، ووسط الذكور بشكل خاص. ويرجع ذلك ـ في جزء منه ـ إلى الالتحاق المتأخر بالدراسة، أو تعدد سنوات التكرار بالسلك الابتدائي، أو مغادرة المقاعد الدراسية، والعودة إليها، لاحقا، عن طريق الإدماج، أو الإرجاع المباشرين؛ وهما مبادرتان مستمرتان ـ بنتائجهما السابقة ـ مستقبلا في المنظومة التربوية، حسب منطوق المادة الثالثة من القانون الإطار التي نصت على “محاربة الهدر والانقطاع المدرسيين بكل الوسائل المتاحة، وإعادة إدماج المتعلمين المنقطعين عن الدراسة في إحدى مكونات منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، أو إعدادهم للاندماج المهني”؛ وهو ما سيطرح على المنظومة التربوية ـ بمستوياتها التراتبية المختلفة ـ والقائمين عليها، تحديات كبيرة في تدبير “التنوع العمري” داخل المؤسسة، وما يصاحبه من تنوع في صيغ وأساليب التعامل مع الوضعيات الحادثة نتيجة ذلك.
ولا شك، أيضا، في أن الولاية الأبوية، والنيابة الشرعية عن القاصر تسقطان بمجرد بلوغ المُولّى عليه الثامنة عشرة سنة من عمره، باستثناء الحالات التي نص فيها القانون على استمرارهما، مثل فقدان الأهلية، وأسباب الحجر الأخرى.
ومن هنا تجب الإشارة إلى أن المنظومة التربوية، بالنظر إلى أهدافها ووظائفها في “ترسيخ الثوابت الدستورية، وإقرار قيم المواطنة، والمساهمة في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وتزويد المجتمع بالكفاءات والنخب، وغيرها من الأهداف المنصوص على مرتكزاتها في المادة الرابعة من القانون الإطار سالف الذكر؛ مدعوة إلى إرساء “التقائية” القوانين المنظمة للمجتمع، والمرجعيات المعتمدة في تدبير المؤسسات التعليمية، وملاءمتها للمقتضيات الدستورية، والمكتسبات الحقوقية الكونية، والمحلية للطفل، والراشد من المتعلمين على حد سواء؛ والتمييز ـ بشكل واضح ـ بين الولاية الأبوية والنيابة الشرعية، وحق الراشد في الانتفاع بحقوقه، والتزاماته، واستقلاله القانوني والمادي بشخصه؛ وكيفيات ممارسة هذا الحق فعليا داخل المؤسسة التعليمية.
(*) فاعل تربوي


الكاتب : فتح الله بوعزة (*)

  

بتاريخ : 28/10/2021