« ولد من الجنة».. الحياة أرحب وأرحم خارج الأزهر!

المخرج السويدي طارق صالح يكشف الصراع بين الدولة الأمنية والدولة الدينية

نجح فيلم «ولد من الجنة» (ثريللر) للمخرج السويدي من أصل مصري، طارق صالح، في خلق تقاطع مثمر بين مؤامرة سياسية صنعتها السلطة المركزية (جهاز أمن الدولة) من جهة، ودراما إنسانية وضعت طالب الأزهر (آدم) في قلب الصراع على السلطة، ليس داخل المؤسسة الدينية في مصر حسب، بل في قلب الصراع بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، حيث تسعى كل واحدة منهما إلى الاستحواذ على الأخرى والتحكم فيها واستعمالها، ولو اقتضى الحال اللعب خارج «القوانين» أو خارج «الشرع». والسر أن «البلاد لا يمكن أن يحكمها فرعونان دفعة واحدة».
يبدأ الفيلم بمشهد قارب صغير في عرض البحر على متنه آدم (توفيق برهوم) ووالده، وعلى لقطة سمكة صغيرة عالقة في شبكة صيد، وينتهي أيضا، في ما يبدو أنه إغلاق دائرة، بمشهد القارب الصغير وعلى متنه آدم وهو يواصل التجذيف في عرض البحر، وكأن لا شيء وقع بين لحظة البداية ولحظة النهاية، والحال أنه انغماس متكرر في الدائرة الملعونة (ما الذي تعلمته يا بني؟ يقول شيخ القرية).
أليس هذا هو السؤال العميق الذي طرحه الراهب «نرسيس» في رواية هرمان هسه على تلميذه وصديقه «غولدموند»؟
لقد استحضر طارق صالح رواية «نرسيس وغولدمند»، كما هو واضح، مازجا بين الشخصيتين (حياة الأزهر الصارمة (نرسيس)/ الانطلاق بحثا عن المعنى واكتشاف «الحياة الأخرى»، خارج الدير، وفي الدوائر الجهنمية التي تصنعها السلطة في علاقتها بالدين والناس (غولدموند)..).
إن الفيلم، كما الرواية، يعملان على «كشف» ما يتجلى وراء «الصمت»: الصراع؛ التآمر؛ القتل؛ الابتزاز؛ التجنيد؛ الترهيب؛ الترغيب؛ التهديد؛ السجن؛ فساد السلط؛ النفاق الديني؛ ازدواجية الخطاب؛ الانحلال الأخلاقي؛ موت الضمير؛ السخرة؛ توافق المصالح؛ الإرهاب: إرهاب الدولة/ الإخوان/ الجماعة. تلك هي العناصر التي تُحرك الفيلم وتؤطر أحداثه.
ولم يخف المخرج أنه عمل، فكريا، على تطريس فيلم «اسم الوردة» الذي أخرجه جان جاك آنو عن رواية لأمبرتو إيكو تحمل العنوان نفسه، وتحكي عن الراهب الفرنسيسكاني والمحقق السابق في محاكم التفتيش، وليام أوف براسكرفيل، الذي جاء إلى الدير للتحقيق في سلسلة وفيات غامضة، وذلك من خلال الحكاية القصة التي يسردها التلميذ أدسو، متحدثاً عن سفره مع معلمه إلى الدير، وعن حرب الرهبان الصامتة، وعن «الصورة الأخرى» المخفية في القتل والتجريم والحرق ومحاربة السحر والفلسفة والفكر.
إن فيلم «ولد من الجنة» يكشف لنا ما يكتنف «الأزهر» من صراعات وأحقاد وتباين في الرؤى وفي الموقف من السلطة السياسية القائمة، في قالب بوليسي مثير يقوم على العلامات والرموز والألغاز، فضلا عن النماذج الثابتة للنظام الأمني الاستخباراتي؛ وهي العناصر التي يستعملها المخرج كدعامات قوية لحبكة الفيلم، مما يساهم بشكل ناجح في «تسهيل الاتصال» مع الراهن السياسي (صور الرئيس السيسي على سبيل المثال) الذي تتصارع فيه قوتان، أو إذا شئنا الدقة، تتحرك داخله الدولة الأمنية من أجل إحكام السيطرة على حصن ديني (الأزهر) لا تتحكم فيه بالفعل، أو أنها لا تتحكم فيه كليا، ما دام الأمر متعلقا بإحلال «شيخ أزهر جديد» قريب من نظام الحكم ويحظى بثقته وإبطال أي شيخ آخر، إما لأنه يتمتع بقسط وافر من الثفافة وحرية الفكر والاجتهاد، وإما لأنه يقف على يسار السلطة ويزاحمها فكريا وسياسيا. وهذا يذكرنا بالفضاء الروائي التي تتحرك داخله شخصيات الكاتب البريطاني جون لوكاري الذي لا يخفي المخرج تأثره به، ما دامت رواياته تستدعي عالم التجسس، وذلك في قالب تاريخي مبني على أحداث تعلن انتماءها لعمل البوليس السياسي؛ وهي الروايات التي تقوم على بناء علاقات محبوكة ومعقدة بين الشخصيات، مثلما نجد في روايته الذائعة الصيت «الجاسوس الذي أتى من البرد» (1963).
إن فيلم (ولد من الجنة) حكاية آدم (توفيق برهوم)، شاب أتى من قرية صيادين (من البحر) إلى القاهرة من أجل الدراسة في جامعة الأزهر. غير أنه يقع في شبكة مؤامرات تتصل كلها بانتخاب «شيخ الأزهر الجديد». إنها «قصة تجسس وقتل وفساد ومخبرين ومكائد»، يقدم المخرج تفاصيلها على نحو متشعب، منتقدا السلطة الدينية والسلطة السياسية بأسلوب سينمائي رفيع وحساس ولاذع، دون أن يقع في «المباشرة النقدية الخطابية «. ذلك أننا مع آدم نقتحم، منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى الازهر، جدران متاهة لا تتوقف توتراتها. إذ يموت «شيخ الأزهر»، فيصبح انتخاب شيخ جديد (على مقاس السلطة السياسية) أمرا ضروريا. غير أن هذا الحدث يتزامن مع جريمة قتل طالب مخبر يشهد عليها آدم. ومنذ ذلك الحين تضيق الكماشة الاستخباراتية عليه، فيضطر للتعاون مع جهاز أمن الدولة بالترغيب والترهيب والإغراء، مما سيعرضه للكثير من الصدمات، جراء النمو الكافكاوي (الإيكزوتيكي الغروستيكي أحيانا) للأحداث في عالم ديني صارم ومغلق.
لقد قدم طارق صالح فيلما مثيرا للجدل، بجرعة كبيرة من الجرأة. كما جعلنا نتابع حكاية راهنة ننتمي إليها جميعا، حكاية ذلك الصراع الدائم بين السياسة والدين على من يتحكم، ولمن ستؤول الغلبة، وبين هذا وذاك، كيف تصبح جميع الأفعال الغريبة بين السلطتين، بما فيها القتل، مبررة.


الكاتب : مراكش: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 15/11/2022