يد جون – لي هوكر

يد تبدو قادمة للتو من حقول القطن، حيث العنصرية وإيديلوجية تفوق العرق الأبيض شكلت القناع الذي حجب الاستغلال الطبقي، وصنعت نوعا من القبيلة المنسية الضائعة، قبيلة أو قبائل المنتمين للعرق الأسود القادمين من السواحل الغربية لإفريقيا، في عنابر السفن. عبروا المحيط الأطلسي ليباعوا في أسواق النخاسة للمزارعين البيض في ذلك الجنوب الذي خاض حربا ضروسا (حرب انفصالية) من أجل الدفاع عن العبودية. إنها يد جون – لي هوكر المسكونة بالألم والأنين، والشكاوي الصريحة، يكفي أن تراها وهي تعزف بشكل زاهد متقشف، تهز أوتار الغيتار الكهربائي لتعرف بأنها يد ورثت عبر نوتات البلوز كل العذابات والإهانات والاستغلالات التي طالت السود في الولايات الجنوبية، في ذلك الجنوب الذي وصفته بدقة روايات وليم فولكنر. هناك أسطورة بشأن البلوز تقول بأن أول عازفيه ومطربيه وهو روبير وليامس، قد التقى صدفة بالشيطان في مفترق طرق وباع له نفسه ضمن عقد فاوستي (نسبة إلى فاوست) نظير أن يعلمه العزف على الغيتار، طبعا ليست هذه أكثر من أسطورة مؤسسة تقول بأن أسباب نشوء وتخلق هذه الموسيقى لم تكن عادية بل استثنائية، اليد/الأيادي التي اندغمت في المعاناة وفي العمل المضني في حقول القطن في ألاباما، نبراسكا، مونتانا، ونيو أورلياتز، وغيرها من مناطق الميز العنصري هي نفسها التي عرفت، أو ستعزف لا حقا هذه الموسيقى الوجودية، هذا الغناء شبه الروحي الذي يبدو مطربه كما لو أنه يبث لواعجه ، يترجم آلامه / آماله، يكتب أتوبيوغرافيته كفرد وكجماعة. يد جون – لي هوكر لا تعزف في الحقيقة بل تترجم عبر الجمل الموسيقية البرزخية، الشذرية، التبدو كالتماعات هاربة موقفا / مواقف من الوضع الاعتباري الذي عاناه السود. غنى العبيد السود البلوز بشكل غريزي تلقائي أول مرة وهم يعملون في حقول القطن، وغنوه أيضا حين يلوذون مساء بأكواخهم، كان مثل شكاوى الفلاح الفصيح الفرعونية نوع من الشكوى الملتاعة، من التعبير عن عشق الحياة، من وصف نمط الحياة السيئة التي يحيونها، بحيث تتحول الحالة الفردية الى حالة كونية، يتماهي غناء الجسد وموسيقاه، بالجمل الروحية التي تتلفظ بها الأرواح، هو نفس المبدأ الذي طبع الغناء الكنسي لدى السود الأمريكيين ضمن مـا يسمى the gospel، والجاز أيضا، انظروا لتجربة الجازمان عازف الساكسوفون شارلي باركر الملقب بالطائر The Bird كان أحيانا يدخل أثناء عزفه وارتجاله الموسيقى حالات شبيهة بالانخطاف، تحت تأثير الكوكايين الذي دمر في النهاية موهبته وحياته … يد جون – لي هوكر المعروقة، ذات الأصابع التي ورثت العمل اليدوي، اليد السوداء الشبيهة بلعنة تنكتب في التاريخ السري للجسد، يد سهرانة على حافة المهاوي، لا تعزف في واقع الأمر، بل تمرر الجمل الموسيقية المشتتة، المذررة، الشذرية إلى أوتار الغيتار، كبار عازفي الغيتار الذي صاحبوه مرارا ضمن حفلات شبيهة بتكريم له John – Lee Hoocker and Friends، مثل سانتانا، إريك كلابتون، مارك نوفلر، ب.ب. كينغ وآخرين صاحبوه، تماما كما ذهب عازف البلوز العظيم راي كودر Ry cooder مع فرقته ومجموعة من التقنيين إلى مالي، وتحديدا إلى مدينة تمبوكتو ليصاحبوا عازف البلوز الزاهد علي فاركا توري، لم يفرضوا عليه قواعد البلوز الأمريكي بل أنصتوا لبلوزه الإفريقي وصـــاحبوه، مما أنتج ألبوم (talking timbuktu)، يكفى أن نرى يد جون – لي هوكر لنتيقن بأن يدا كهذه لا يمكن أن تعزف إلا بتلك الطريقة المسكونة جملها الموسيقية بالصمت والبياض، بضع نوتات متفرقة على الغيتار، بضع كلمات منفصلة عن بعضها البعض وتتخلق الأغنية ، إنها مسألة متعلقة جذريا بالثقافة الغنائية للسود الأمريكيين وبالإبداعية الموسيقية الخاصة بهم، فالبلوز و الجاز جنسان موسيقيان أبدعهما السود، حتى وإن كان هناك بلوزمانات بيض مبدعين مثل عازفي الغيتار إريك كلابتون صاحب أغنية (ليلى) أو أغنية tears in heaven الشهيرتين، أو راي كودر صــاحب مـوسيقى فــيلم (بــاريس – تيكساس) لفيم فندرس، أو عـازف الترومبيت Chet Baker. يبدو البلوز موسيقى طالعة من أعماق العمل اليدوي، travail manuel لا موسيقى كالكلاسيكية متخلقة من العمل أو التأمل الفكري، ننصت للبلوز بأجسادنا، ولموزار، باخ، بتهوفن، هاندل، أو غيره بعقولنا. يد جون – لي هوكر، يد تعرف تاريخها السري والعلني، حين ترى يد نجار أو جزار، أو إسكافي، أو عامل بناء وغيرهم، ترى تاريخ صاحبها منقوشا/ مكتوبا في يده، يد الجهد الإنساني. حين اعتقلت الطغمة العسكرية التي قامت بانقلاب الشيلي بزعامة بينوشي العديد من الناس كان من بين من اعتقلته من المثقفين والفنانين فيكتور خارا Victor Jara مغني الأغنية الاحتجاجية السياسية وعازف الغيتار، وأول ما قام به الذين عذبوه هو قطع يديه. تاريخ البلوز هو تاريخ اليد التي تعزفه أولا وثانيا تاريخ الأصوات القوية التي تغنيه. يغني جون – لي هوكر نوعا من البلوز المتقشف، نوعا من البلوز المينمالي، الذي هو أقرب إلى فن الإلقاء diction La، بضع كلمات بضع نوتات موسيقية وتتشكل الأغنية، بوووم، بوووم، بوم بوووم، هكذا يغني أحيانا. من داخل تقشفها الخلاق تبدو يد جون – لي هوكر يدا معطاء، تعود بالبلوز إلى بداياته التلقائية الأولى، قبل أن يغرق في سولوهات الغيتار الكهربائي، يد تبدو كسطح القمر مليئة بالأخاديد والثقوب والتشققات لا تعزف غير وجعها ولوعتها، وحين أراها أستحضر تلك الأيادي السوداء التي برع الفنان الفوتوغرافي التهامي الناظر في تصويرها بدقة بالغة، الوقوف عند تفاصيلها انطلاقا من نظرة أناتومية لافتة. مؤكد أن صورة يد جون – لي هوكر كانت ستجد مكانا لها من بين صور الناظر المصور الفوتوغرافي الفرنسي من أصل مغربي، الذي زرت معرضا لصوره أول مرة في مراكش سنة 1989. الصوت في البلوز تابع لاشتغال اليد، تماما كما كتابة النصوص الفلسفية عند هيدغر لا يمكن أن تكون بدون اليد، ديريدا نفسه الذي هو أول فيلسوف يستعمل حاسوب ماكنطوش في كتاباته الفلسفية ظل، كما قال في إحدى حواراته، يكتب نصوصه بذلك الخط الغامض والمتعذر قراءته. قد تظل يد جون – لي هوكر يدا وقد تتحول إلى حيوان، صيرورة- اليد – شيئا – آخر متعلقة جذريا بطريقة العزف، بهذا البلوز القادم من حقول القطن، من التاريخ الفجائعي للعبودية، ومن التقسيم العرقي للعمل وللأوضاع الاعتبارية الاجتماعية، لكن المتخيل الموسيقى ظل يقظا ليعزفه / يغنيه جون – لي هوكر Chill out.


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 19/07/2024