يعتبر من أهم روافد زواج القاصرات : الهدر المدرسي آفة مجتمعية تقضي على أحلام آلاف التلاميذ والتلميذات المغاربة

 

على ربوة خضراء يانعة تطل على مدرسة ابتدائية بأحد الدواوير النائية بإقليم الجديدة، تجلس ليلى ذات السبعة عشر ربيعا، تراقب بعيون حالمة تلاميذ يتدافعون في ما بينهم مغادرين أقسامهم بعد أن قضوا ساعات في التحصيل و الدرس ، قبل سنوات قليلة كانت ليلى مثلهم ، لا تحمل من هم الحياة سوى ما يطلبه منها معلموها من واجبات دراسية كانت تنجزها بكل سهولة ويسر دون مساعدة من أحد ، هي التلميذة المتفوقة المحبوبة، كانت تنتظر بشوق حصولها على الشهادة الابتدائية لتغادر نحو إحدى الداخليات لإتمام دراستها،ومن تم تشق طريقها نحو غد أفضل تحقق فيه أمنياتها الصغيرة، لكن والدها كان له رأي آخر، لقد استيقظ في صبيحة أحد الأيام وقرر منعها من مواصلة طريقها، فمن المستحيل، بالنسبة إليه، أن تغادر ابنته إلى مكان آخر لإتمام دراستها، المكان الوحيد الذي ستغادر اليه هو بيت زوجها، بعد مدة قليلة كان له ما أراد وتحولت ليلى من تلميذة نجيبة إلى امرأة متزوجة وهي لم تتجاوز بعد الخامسة عشرة. حكاية ليلى ليست مغايرة عن حكايات الآلاف من الفتيات الأخريات، نفس المصير ونفس الطريق يسلكنه كلهن تقريبا خصوصا بالقرى والجبال ، انقطاع مفاجئ عن الدراسة، تزويج ثم طلاق والعمل كخادمات بيوت و عاملات مياومات بالضيعات المجاورة أو بالمعامل.
هدر مدرسي سافر يعاني منه الأولاد أيضا، فهم بالنسبة لوالديهم في تلك القرى المنغلقة على نفسها استثمار سيعينهم على تجاوز أعباء الحياة وقساوة العيش، يحكي أحد الأساتذة الذي اشتغل مدة طويلة بجبال الأطلس نواحي شيشاوة، أن تلامذته يغادرون الفصل الدراسي دون سابق إنذار للالتحاق بآبائهم في الحقول البعيدة خصوصا إبان موسم جني “الكركاع” والتفاح، أو لجلب المياه من السواقي المنتشرة في أعالي الجبال، أما يوم السوق الأسبوعي فهو عطلة رسمية تتعطل فيها الدراسة نهائيا، رغم أنف الأستاذ، هو يوم عيد ولعب ولهو. التحصيل الدراسي آخر شيء يفكر فيه الوالدان والتعليم عبء لا ينفع بشيء، إلى أن يأتي اليوم الذي ينقطع فيه التلميذ نهائيا عن الدراسة بعد أن يكون استوفى السنوات التي يستفيد منها من برنامج الدعم تيسير.
الأرقام التي تطالعنا بها الجهات المختصة بين الفينة والأخرى عن الهدر المدرسي مهولة تبرز حجم الظاهرة التي لا تقتصر على القرى فقط بل حتى المدن تعرف نسبا عالية من هذا النزيف المقلق ، وزير التربية الوطنية والتَعْلِيم الأولي والرياضة،كشف الأسبوع الماضي عن نسب صادمة لهذا الهدر مؤكدا أنه يشكل تحديا مقلقا للحكومة، فخلال الموسم الدراسي 2020-2021 وصل عدد التلاميذ الذين غادروا الدراسة 331 ألف
تلميذة وتلميذ 2021، مَا يشكل نسبة 5.3 فِي المِئَةِ من مجموع التلاميذ، بارتفاع يقدر بـ0.3 فِي المِئَةِ مقارنة بالموسم الدراسي الماضي 2019–2020. هذه النسبة ترتفع بِالتَّعْلِيمِ الإعدادي لتصل إِلَى 9.7 فِي المائة، فِيمَا تبلغ نسبه الهدر المدرسي بِالتَّعْلِيمِ الثانوي 7.4 فِي المِئَةِ، وَفِي التعليم الابتدائي 2.9 فِي المِئَةِ.
الهدر المدرسي حسب ما صرح به الوزير الوصي على القطاع يشكل رافدا لتزويج القاصرات وَهِيَ ظاهرة مجتمعية تتضافر جهود الحكومة ومكونات المجتمع المغربي لمحاربتها والتصدي لَهَا.
مبرزا فِي عرض قدمه أَمَامَ لجنة التَّعْلِيم والثقافة والاتصال المنعقد يوم الثلاثاء 12 أبريل 2022 بمقر مجلس النواب أن الوزارة وضعت ضمن أولوياتها القصوى محاربة الهدر المدرسي بالنظر إِلَى تأثيره السلبي عَلَى مستويات التنمية البشرية وَعَلَى المُسْتَوَى التربوي والاقتصادي. وتوقف بنموسى عند مختلف الإجراءات المتخذة لمحاربة الهدر المدرسي والتي حددها على الخصوص في تعميم التعليم الأولي، وتوسيع العرض المدرسي، لا سيما عبر تعميم المدارس الجماعاتية، ومواصلة توسيع تغطية الوسط القروي بمؤسسات التعليم الإعدادي، حيث تم تسجيل 70,7 بالمائة كنسبة تغطية الجماعات القروية بالتعليم الإعدادي، مؤكدا في هذا الصدد على أهمية تعزيز خدمات الدعم الاجتماعي الذي يحظى في المشروع الإصلاحي لقطاع التربية الوطنية باهتمام خاص، بالنظر إلى مساهمته في التشجيع على التمدرس وتعميمه وتحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص.
في تقرير آخر أصدره مؤخرا المجلس الأعلى للحسابات كشف أن نسبة الانقطاع عن الدراسة بالوسط القروي بالمغرب ورغم المجهودات المبذولة فإنها لا تزال مرتفعة مقارنة بالوسط الحضري، وخاصة في السلك الإعدادي والذي سجلت فيه حوالي  %12,2 خلال الموسم الدراسي 2020-2019، مقابل  %9,3 بالوسط الحضري.
وأضاف المجلس الأعلى للحسابات في تقريره السنوي برسم سنتي 2019 و2020، أن هذه النسبة انخفضت خلال السنوات الأخيرة فيما يخص الأسلاك التعليمية الثلاثة (بين موسمي 2019-2018 و2019-2020، قدرت نسبة الانخفاض بحوالي  %0,9 و%1,7و ،%1,4على التوالي، في الابتدائي والإعدادي والتأهيلي،) وذلك بفضل برامج الدعم الاجتماعي للتمدرس.
وأشار التقرير ذاته إلى أن التمدرس بالوسط القروي يندرج ضمن صلب اهتمامات أهم استراتيجيات التربية والتكوين المعتمدة ببلادنا والمتمثلة أساسا في الميثاق الوطني للتربية والتكوين والبرنامج الاستعجالي والرؤية الاستراتيجية 2015-2030.
وحسب المجلس الاعلى للحسابات فإن اهتمام الدولة بالتمدرس بالوسط القروي يظهر من خلال المجهود العمومي المخصص لذلك حيث انتقلت تكلفة كل تلميذ متمدرس بهذا الوسط بين سنتي 2017و 2019، فيما يرجع لنفقات التسيير من 7.580 درهم مقابل 6.391 درهم بالوسط الحضري إلى 7.985درهم مقابل 6.788 درهم بالوسط الحضر، لكن المجلس خلص إلى أن حصيلة التمدرس بالوسط القروي ورغم التحسن الملموس الذي سجلته، فإنها تظل دون مستوى التطلعات، حيث إنه، وإن تم تقريبا تأمين تعميم التمدرس والمساواة بين الجنسين بالوسط القروي في السلك الابتدائي وذلك بفضل الجهود الرامية إلى تشجيع تمدرس الفتيات، إلا أنه لا يتم الحفاظ على هذين المكسبين بعد الانتقال إلى السلكين الإعدادي والتأهيلي، حيث قدرت النسبة الخام للتمدرس بالإعدادي، خلال الموسم الدراسي ،2019-2018بحوالي ،% 74,1منها % 82,4بالنسبة للذكور و % 65,4بالنسبة للإناث. بالإضافة إلى ذلك سجلت فوارق ملحوظة، في هذا الصدد بين الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين.
لا شك أن الهدر المدرسي الذي ينتشر في بلادنا خصوصا بالقرى والأحياء الهامشية والفقيرة بالوسط الحضري له انعكاسات خطيرة على المجتمع أقلها انتشار الأمية والبطالة وتفشي الجريمة والانحراف والتهميش واستغلال الأطفال، وتتشعب أسبابه وتنقسم الى تربوية ثقافية أو اجتماعية كامية الآباء والعادات و التقاليد والافكار الخاطئة حول تمدرس الفتيات والخوف من جلب العار إلى الأسرة ومن التعرض للتحرش والسعي إلى الزواج المبكر، كما قد تكون أسبابا اقتصادية كالفقر والحاجة والدخل المحدود للأسر الشيء الذي يقف عائقا أمام الأطفال لإتمام دراستهم، هذا وتعد صعوبة اندماج التلاميذ في المحيط المدرسي، ومدى قابليتهم للانخراط في المؤسسة التعليمية، وصعوبات التعلم لدى العديد منهم من أهم اسباب الهدر المدرسي أيضا، دون إغفال ما قد يصادف بعض التلاميذ من ضعف في مواكبة وتيرة الدراسة وتعدد المستويات الدراسية في القسم الواحد والاكتظاظ وغياب الوسائل البيداغوجية والديداكتيكية إضافة إلى البعد عن المدرسة وحالات الغياب المتكررة لدى بعض المدرسين، إما بسبب الإضرابات المتكررة أو ظروف العمل الصعبة خصوصا بالوسط القروي.
كل هذه الاسباب وغيرها كثير تلعب دورا أساسيا في هجرة تلامذتنا لحجراتهم الدراسية، ورغم الحلول التي يقدمها العديد من المختصين في المجال التربوي والمجهودات التي تقوم بها الوزارة الوصية إلا أنها تبقى صرخة في واد، إذ لا يزال التحدي كبيرا أمام كل الفاعلين لوقف هذا النزيف المؤلم الذي ينذر بمغرب يصارع أمواج الأمية والجهل والتخلف، مغرب تقضى فيه على أحلام أطفال في عمر الزهور، وفتيات يتحطم مستقبلهن أمام اعينهن، ويتحولن بين ليلة و ضحاها إلى عبء على المجتمع وعلى عائلاتهن…
نعود لليلى، بطلة مقالنا هذا عن الهدر المدرسي وما يسببه من مآس وآلام، ونكمل قصتها المؤلمة، لقد عادت بعد ثلاثة أشهر من الزواج إلى بيت ابويها، لفظها الزوج وتركها معلقة إلى حدود كتابة هذه السطور.في شبه بكاء صامت لم يتجاوز حنجرتها وحزن بليغ يطغى على ملامحها البريئة، تقول ” ضاعت حياتي، فلا انا بالمتزوجة ولا بالمطلقة، وحتى دراستي ضاعت مني، أتعرض للمعاملة السيئة من عائلتي، وخصوصا إخوتي الذكور، أنا بالنسبة ليهم ما كايناش، كون كملت قرايتي ما غيكونش هذا حالي “، وتتابع بصوت متهدج وقد تلألأت عيناها بالدموع :” ، امي ما بقاتش تديها فيا ووالدي ما بغاش يوقف معايا باش نطلق وقال ليا غتبقاي على هاد الحال حتى يدي مول الأمانة أمانتو” !
كم من ليلى تتعرض في بلدنا لنفس المصير المظلم، وكم من ليلى بريئة يحكم عليها كل يوم بالضياع مدى الحياة؟ مستقبل غامض وحياة مسروقة تجعلنا نطرح السؤال الملح: بأي ذنب وئدت ليلى؟


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 21/04/2022