يقود انقلابا هادئا على جمهورية «قاف صاد» قَصص سعيد منتسب.. بيانات مروق لتحطيم الهيكل

بمناسبة اليوم العالمي للقصة القصيرة ، نظمت شبكة القراءة بالمغرب يوم السبت 15 فبراير الجاري، لقاء احتفائيا بالتجربة القصصية للكاتب والإعلامي سعيد منتسب، بالمكتبة الوسائطية لمؤسسة مسجد الحسن الثاني ، بحضور ومشاركة أسماء وازنة بالساحة الثقافية وهو اللقاء الذي سيرته رئيسة فرع بنمسيك للشبكة الأستاذة بشرى البكاري.

 

“التنين الأسمر” لم تسلم من نيران نصوصه المترجمة والأستاذة بجامعة الحسن الثاني بالدار بالبيضاء والكاتبة العامة للجمعية المغربية للدراسات الإيبيرية والإيبيرو الأمريكية، فاطمة لحسيني، التي أكدت في ورقتها النقدية لتجربة منتسب القصصية أنه ” لا يخشى التحليق فوق الحواجز التقليدية للسرد، بل يعبرها بجناحين من الإبداع والتمرد، يلتهم الحدود بين الواقع والمتخيل، بين العادي والعجيب، ويجعل من نصوصه عوالم تتنفس، تهمس، وتصرخ” مضيفة أنه مع سعيد “لا مجال للملل ، فهو لا يمنح القارئ فرصة لأخذ نفس قبل أن يجذبه إلى عمق الحكاية، ويتركه هناك، مذهولًا، متورطًا، وربما متفحمًا قليلًا من حرارة السرد”.
لحسيني التي وصفت ضيف الشبكة بـ “التنين”، أبرزت أن “لغته المتوهجة النارية، لا تكتفي بنقل الحدث، بل تصنعه، تحيطه بهالة من الدهشة، وتعيد تشكيله بطريقة تجعله أكثر تأثيرًا” لأنه كاتب لا يكتب بمداد عادي، بل بنار تستمد طاقتها من فلسفة الحكي، و”من فهم عميق لوظيفة اللغة في خلق الإحساس بالتحولات والتمزقات التي يعيشها الإنسان” ، مضيفا أن في نصوصه”لا نجد وصفًا تقليديًا للأحداث أو الشخصيات، بل نجد لغة تمور بالحياة، تلتف حول القارئ كألسنة لهب، تجبره على التورط في مساراتها السردية. إنه كاتب لا يقدم حقائق جاهزة، بل يترك للقارئ أن يعيد اكتشافها بنفسه، أن يحترق بلذتها، وأن يشعر بأنه جزء من هذا الاحتراق اللغوي الجميل”.
الناقد محمد علوط، وهو يسبر عوالم منتسب السردية ، يرى أن أعمال سعيد منتسب تتطلب قارئا يقظا، لديه ما يمكن اعتباره جماعا مشتركا بين فعل القراءة وفعل الكتابة لأنه من ضمن القصاصين المغاربة الذين يشتغلون على كتابة أركيولوجية تتطلب قارئا متفاعلا.
علوط الذي اختار “النزول إلى قبو الحكاية ” من خلال عمل منتسب الموسوم بـ “قبو إدغار ألان بو” يرى أنه من خلال 23 سرودا قصصية تدخلنا إلى 23 قبوا، فإن منتسب اختار هذا المكان كذريعة نصية تسمح له باعتماد مبدأ التوازي ولعبة المرايا في الحكي، وهذا الاختيار هو “اختيار جمالي لأحد أشكال الحبكة السردية الموسومة بـ”الحبكة المروحية أو السرد المروحي”.. القصة واحدة فيه، وتعود باستمرار. وهذه الاستعادة التخييلية “تضيف إلى المعنى الواحد، طبقات متعددة إلى السرد”.
وخلص علوط إلى أن قبو سعيد منتسب هو “قبو الغرابة المقلقة حيث تتبدى فيه بوضوح الصورة النقيض لموضوعية العالم الفوقي البراني”.
من يدخل “الأقبية السردية لسعيد منتسب”، سيكتشف أنه لا يكتب لمجرد قص الحكايات، بل ليمارس نوعا من الانزياح عن المألوف.
هكذا تكلم الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس وهو يقدم قراءته لتجربة سعيد منتسب القصصية، واصفا إيه بـ”الحفار عن طبقات المعنى الذي يبحث عن لحظات التوتر بين الدوال والمدلول.. الذي حتى وهو يروي الحكايات، فإنه يفكر، في الآن ذاته، في جوهر الكتابة وأدوات القصة”. وأضاف كوكاس أن “نصوص منتسب أفق مفتوح على التأويل يتجاور فيه العابر والمطلق، العجائبي والغرائبي”.
وأضاف كوكاس أن صوت منتسب يتسلل إلى عمق الوجدان ليصنع مضغة القصص من تعب ولعب، وأن في عوالمه السردية تلتقي حواف الواقع بحواف الذاكرة ، فهو “لا يكتب عن البشر كحالات وشخوص، بل عن الروح التي تسكنهم عن تداخل الواقع بالخيال عن التمزق الداخلي الوجودي بلغة شاعرية”. كما أن نصوصه تعج بشخصيات تبحث عن نفسها، وتحاول التقاط ذاتها وسط ضجيج العالم لذلك فإن قارئه يصاحبه دائما إحساس عميق بأن ما يقرأه “ليس حكايات بل شظايا حياة ومقاطع حياة فردية وجماعية لعالم في طور التشكل إدراكا منه أن الكتابة شكل من أشكال المقاومة ضد النسيان”.
يقول خورخي بورخيس: “إن ما قرأه كان أهم لديه بكثير مما كتبه”، ومن هنا نطرح التساؤل: هل الكاتب الجيد، بالضرورة، قارئ جيد؟
من هذه الزاوية القرائية ومن باب العدة المعرفية، تناولت د. سلمى براهمة عضو مختبر السرديات والخطابات الثقافية بكلية بن مسيك، تجربة سعيد منتسب، وهي العدة الثرة التي وقفت عليها في كتابه “ضد الجميع”: طرائد نصية”، متوقفة عند صعوبة تجنيس هذا الكتاب ضمن خرائطية الأدب، ما جعلها تخلص إلى أنها وجدت نفسها أمام محاولة بناء تصور خاص للكتابة أو الدفاع عنه إن كان موجودا، وأمام “كتابة تضعك أمام كتابة مضادة أو بيانات مروق”، لأنها تجمع ين المقالة والخاطرة والتدوينة والنقد “مع تمايز في نفَس الكتابة من نص لآخر، تسنده لغة متوترة، قلقة ، لا تخفي تحيزات الكاتب”. وأضافت سلمى أن نصوص هذا الكتاب تتحرر تحررا تاما من التوثيق وتغيب عنها الهوامش ربما لأنها تراهن على القارئ والمشترك معه، فتجد الحجاج والسجال والاستدراك والهزل، مادام لا يضيره غياب الاتساق “مادام العالم غدا خاليا منه ومن المعنى”. لذا ترى براهمة أننا أمام ناقد قارئ برشاقة مبدع أو أمام مبدع تثقله هموم الناقد، مضيفة أنه في هذا الكتاب بالتحديد كان منتسب ذكيا في طرح الأسئلة المعلقة، والتي هي، في المحصلة، الأسئلة الحقيقية التي تبقى الكتابة عنها بداية الطريق نحو حل كل مشاكل الثقافة، ما يجعلنا نصنفه ضمن خانة الكاتب/ الموقف الذي يرفع رهانات اللغة والحياة والذات مسنودا بصوته الخاص، لكنه صوت الجميع الجهير، صوت الكتابة الحقيقية التي تحتفي بالتجربة الحياتية وتنتصر لها …كتابة الاحتمال والشك والريبة”.
ضيف الشبكة، سعيد منتسب، في كلمته أكد أنه لا يتسوق القصص، ولايقيس كلماتها أو جملها أو صفحاتها. كل ما يفعله هو الجلوس لحل المشكلة برفقة ذلك الشعور الكثيف بأنه تريد أن يكتب قصة مختلفة من رأسه، وليس من رأس القصص الأخرى التي قرأها، مضيفا أنه “ليس مطلوبا منك أن يكون سردك وقورا أو راشدا. عليك فقط أن تنشئ لعبة، أو أن تبتكر خارطة سردية تزرع فيها مدنك وغاباتك وجبالك وأنهارك، وأن تفرق عليها الضوء قبل أن تختار الشيء الذي يلائم مزاج قصتك”.
وأضاف منتسب أن فظل وسيظل وفيا لكتابة تتشيد على فكرة نقض وطمس وإتلاف كل ما قرأه، لأن الكاتب الذي يترجم الأصل ولا يدخل في نزال لطمس المرجعيات، بكل بساطة ،يقول منتسب ” لن يكتب إلا “الأرشيف”، مؤكدا أن حماية القصة من الأذى، تأتي، من العناية المطلقة بالأشياء الضئيلة والبقايا والتذكارات الميكرسكوبية، ففي القصة لا مجال لإهمال أي تفصيل، ولا أي تقاطع، مهما كان صغيرا”.اللقاء شهد أيضا تقديم شهادات من طرف القاصة ربيعة عبد الكامل والباحث والروائي جمال بندحمان، ومن أصدقاء المحتفى به وأصدقاء القصة.


الكاتب : حفيضة فارسي

  

بتاريخ : 19/02/2025