«يهود السلطان».. بين المنزع الشيوعي وتشظي الانتماء الوطني

أصبح البحث في تفاصيل تكون عناصر تجانس الهوية المشتركة للمغاربة اليهود، مجالا أثيرا للمؤرخين المغاربة والأجانب المهتمين بقضايا التاريخ الوطني الراهن. ولعل من عناصر القوة العلمية المرتبطة بهذا المسار، بداية التحرر من الخطابات التقليديانية التي وجهت الإسطوغرافيات الكلاسيكية، سواء منها العربية الإسلامية أم الأوربية الكولونيالية أم المجددة المرتبطة بمرحلة ما بعد الرحيل المباشر للاستعمار. لم يعد البحث محكوما بهاجس إثبات حالة الانسجام التام لليهود المغاربة مع بيئتهم الوطنية الحاضنة، كما أنه لم يعد مرتبطا بهاجس الرد على الأطروحات الاستعمارية المغالية في تحاملها على الدولة وعلى المجتمع المغربيين بخصوص حالة الظلم والتهميش والاحتقار والاضطهاد التي أُقْحِمَتْ -إقحاماً- بين ثنايا سرديات تاريخ المغرب، على الأقل منذ القرن 7م مع وصول الفتح الإسلامي إلى الشمال الإفريقي. وفي المقابل، ظل الهاجس العلمي مرتبطا بتلمس تفاصيل الانتماء الروحي الذي جعل جزءًا كبيراً من مكونات الوسط اليهودي المغربي يُفضل الحفاظ على أواصر الارتباط بوطنه الأم، سواء بالنسبة للفئات التي اختارت الهجرة نحو إسرائيل خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أم بالنسبة للفئات التي ناصبت العداء للحركة الصهيونية وظلت متشبثةً بانتمائها الوحيد والأوحد لوطنها الأم، المغرب.
لقد قيل الشيء الكثير عن هذا الموضوع في إطار النقاش السياسي العام بالمغرب، وانتهت التخريجات إلى توجيه النقاش نحو واقع الفئة اليسارية التي اخترقت انسجام الطائفة اليهودية، لتختار انتماءً شيوعياً خالصاً في مواجهة أطراف متعددة، لعل أبرزها مكون من باقي مكونات اليهود المغاربة، وبالتنظيمات الوطنية المغرقة في منطلقاتها الإيديولوجية السلفية الإصلاحية والقومية العروبية، ثم بأجهزة صنع القرار داخل الدولة المغربية نفسها. وعلى الرغم من انحصار تأثيرها العددي في مجالات محددة، فإن تأثيرها على مستوى الارتقاء بوعي الفئة المسماة ب»شيوعيي السلطان» ارتقت إلى مستوى إنتاج خطاب جذري ومؤسس للبديل الآخر الذي كان ينتظر الطائفة اليهودية، بل واتخذ هذا الخطاب شكلاً صدامياً في مستويات متعددة، فكرياً وثقافياً وتأطيرياً، مثلما كان عليه الحال مع تجارب ليون روني سلطان، وجرمان عياش، وإدمون عمران المالح، وأبراهام السرفاتي، وشمعون ليفي، وسيون أسيدون. وفي جميع الحالات، لم يكن ممكناً إسماع هذه الأصوات إلا من خلال يافطة الحزب الشيوعي المغربي وتنظيماته وأدبياته التي عبرت عن انتظارات «الفئة المتطرفة» من يهود المغرب المعارضين لمشاريع الحركة الصهيونية فوق أرض فلسطين، والمنخرطين في جهود تدعيم الدولة المغربية وتأهيلها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا في مواجهة إكراهات مرحلة الاستعمار، ثم مرحلة ما بعد الحصول على الاستقلال السياسي.
في سياق الاهتمام الأكاديمي برصد معالم عطاء النخب الشيوعية اليهودية المغربية، يندرج صدور الترجمة العربية لكتاب «يهود السلطان تحت سماء الشيوعية»، لمؤلفته ألما راشيل هاكمان، وبترجمة رفيعة للأستاذ خالد بن الصغير، وذلك سنة 2023، في ما مجموعه 431 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويقدم الكتاب، الصادر في نسخته الإنجليزية سنة 2021، حصيلة مسار طويل من البحث العلمي الدقيق ومن التقصي المعرفي الرفيع ومن التجميع الوثائقي الغزير، الأمر الذي أثمر منتوجاُ علمياُ محترماً وغير مسبوق في مجال تخصصه. وتُلخص الكلمة التقديمية التي وضعتها ألما راشيل هاكمان الدوافع العامة للاشتغال على موضوع الكتاب، قائلة: «يسعى هذا الكتاب إلى استكشاف دوافع المغاربة اليهود الذين اختاروا بدلا من ذلك البقاء، مع الحرص على محاولة التطلع إلى ما وراء بؤر التوتر التاريخية الناجمة عن إنشاء دولة إسرائيل سنة 1948، وعن بقية التطورات التي شهدتها سنوات ما بعد استقلال المغرب… فضلا عن الحروب اللاحقة مع إسرائيل في سنتي 1967 و1973. ويفضي تبني هذا التركيز الزمني إلى خلخلة التحقيب التقليدي بغية الكشف عن قصة دقيقة ومتعددة الأوجه للوطنية وما يرتبط بها من نزعة مثالية، وعن أمور أخرى تتعلق بالانتماء، وتجارب الاغتراب المتحدية للسرديات ذات الأبعاد الوطنية المنتصرة التي انتهت في 1956 أو مع سياقات الهجرة اليهودية إلى إسرائيل. وتسعى هذه الدراسة أيضا إلى البحث في كيفية تصور المغاربة اليهود لأنفسهم باعتبارهم مواطنين فاعلين في المغرب المستقل حديثا، ومعرفة مختلف السبل التي أتاحت الشيوعية بموجبها إمكان مشاركتهم في الأعمال النضالية لحركة التحرير الوطني المغربي، وهذا فضلا عن تسليط الضوء على الكيفية التي حاولت بها الشيوعية والنضال السياسي التوصل إلى حل المفارقة المتعلقة بالانتماء السياسي اليهودي في المغرب. ولم يكن اليهود والمنطقة المجاورة بمفهومها الأوسع عبارة عن عناصر سلبية، اقتلعها الاستعمار والصهيونية والقومية العربي من جذورها، بل كانوا بدلا من ذلك، ولا يزالون، مشاركين بنشاط في الحياة السياسية لأوطانهم الأصلية، سواء في مواطنهم الأصلية أو بأراضي الشتات، دون التوقف عن مواصلة صمودهم لمعانقة كل ما من شأنه الإسهام في تحقيق الانتماءات السياسية وتمتينها… وعلى امتداد الفصول الخمسة الرئيسية من الكتاب، طرحتُ جملة من الأسئلة التكميلية، أُوجِزُها في ما يلي: ماذا يعني أن تكون يهودياً مغربياً زمن الاحتلال الاستعماري؟ ما هي الاستراتيجيات والانتماءات السياسية المتاحة، وكيف طرأت عليها تغيرات بمرور الوقت؟ كيف كان اليهود من مختلف الأطياف السياسية يتعاملون مع بعضهم البعض، ويتعلقون بيهوديتهم ومغربيتهم بوصفهم يمثلون فئات ديناميكية، وكيف تعلقوا أيضا بالدولة؟ ماذا حدث لهؤلاء اليهود المتطرفين الذين اختاروا البقاء في المغرب، وما علاقتهم بمن رحلوا بعيدا عن أراضيه…» (ص ص.28-29).
على أساس هذه الأسئلة المؤطرة للبحث، سعت مضامين الكتاب إلى إعادة تشريح واقع اليهود المغاربة خلال النصف الأول من القرن 20، باعتبارهم «أقلية داخل أقلية» استطاعت أن تكتسب وضعا اعتبارياً متميزاً داخل الدولة، بل وامتد إشعاعها إلى مستويات دولية واسعة خاصة تلك المرتبطة منها بتطورات الصراع العربي الإسرائيلي وتداعياته المتداخلة بالشرق الأوسط وبالدولة المغربية. وقد سعت المؤلفة -في هذا المنحى- إلى الجمع بين البعد السير-ذاتي ثم بين الجانب التوثيقي لتجارب نخب الطائفة اليهودية، بشكل تحولت معه هذه التجارب إلى مسار عام مؤطر لواقع اليهود المغاربة ولتأثيراتهم المتداخلة على المسار العام للدولة. وللاستجابة لهذا الأفق، توزعت مضامين الكتاب بين خمسة فصول متراتبة، إلى جانب مواد تقديمية للمؤلفة وللمترجم، ثم مواد استخلاصية وتركيبية لمآلات اليهود المغاربة، سواء في إطار مسارات الفعل داخل البيئة المحلية أم في إطار مآزق التشظي بين الانتماء الوطني وبين ضغط الواقع السياسي بمنطقة الشرق الأوسط وتبعاته المباشرة على مستوى الاستقطاب والتنافر في إطار ما وصفته المؤلفة ب»ندب وجروح مفتعلة». ففي الفصل الأول من الكتاب، سعت المؤلفة إلى تشخيص واقع اليهود المغاربة خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين، من خلال ربط التطور الداخلي بالسياقات الدولية المرتبطة بصعود التيارات الفاشية بأوربا. يقدم هذا الفصل رصدا للتركيبة الديمغرافية اليهودية المغربية، مع إضاءات دقيقة حول وقائع حياتها اليومية وخاصة في المجال الاقتصادي. كما فتحت المؤلفة قوساً لرصد مواقف الحركة الوطنية من خطابات معاداة السامية، ثم لضبط سياقات معاداة الفاشية لدى اليهود المغاربة من خلال تنظيمات حركية وجماهيرية مؤثرة، وعلى رأسها الجبهة الشعبية المغربية والحزب الشيوعي المغربي. وفي الفصل الثاني من الكتاب، انتقل المؤلف لرصد أوضاع اليهود خلال مرحلة الحرب العالمية الثانية، وخاصة على مستوى العلاقة مع فرنسا في ظل حكومة فيشي، وفي ظل التحولات العالمية التي أفرزتها «عملية الشعلة»، مع ما حملته من ديناميات أثرت على أداء كل من التنظيمات الشيوعية أولاً، وعلى الأنوية الصهيونية ثانياً، ثم على هيآت الحركة الوطنية ثالثاً. وفي الفصل الثالث من الكتاب، اهتمت المؤلف برصد تحولات ما بعد الحرب العالمية الثانية بإفرازاتها المباشرة على حدث الاستقلال السياسي للمغرب سنة 1956. وتتبعت المؤلفة في الفصل الرابع تفاصيل «الشظايا» الناجمة عن واقع خيبة الأمل وأثره على حياة اليهود في المغرب المستقل، وذلك من خلال وقائع حاسمة مثل اشتداد المعارضة واحتدام أعمال القمع، وتكاثف عمل الحركة الصهيونية في صفوف اليهود المغاربة، وتحولات الوضع الداخلي المغربي في ظل واقع مطلع سبعينيات القرن 20 مع اشتداد الأزمات المركبة وبروز محاولات انقلابية خطيرة. أما في الفصل الخامس والأخير، فقذ حاولت المؤلف ربط سياقات سردها بتطورات الراهن، في سعيها للربط بين قضايا نخب اليهود المغاربة وانتظاراتهم من جهة، وبين منطق التعايش والتعاون في ظل التباسات الحرب الباردة ووقعها على المجال المغربي، سياسيا وثقافيا واجتماعيا من جهة ثانية. في هذا السياق، حاولت المؤلفة تتبع وقائع مفصلية في صنع المشهد السياسي المغربي الراهن، وعلى رأسها حدث المسيرة الخضراء، ثم انخراط اليهود المغاربة في الفعل السياسي المباشر من خلال تنظيمات إما محظورة مثلما هو الحال مع تنظيم «إلى الأمام» بالنسبة لأبراهام السرفاتي أو مع تنظيم «20 مارس» بالنسبة لسيون أسيدون، أو تنظيمات قانونية ممثلة في حزب التقدم والاشتراكية بالنسبة لشمعون ليفي. ولقد انتبهت المؤلفة إلى نوعية الخريطة التي حملتها مرحلة نهاية حكم الملك الحسن الثاني ثم مرحلة حكم الملك محمد السادس من جهود للعودة لتصحيح العلاقة مع الذات ومع الموروثات اليهودية التاريخية، من خلال حالة الاصطفاف الجديدة التي أعادت توزيع الأدوار والمواقف والمبادرات، في ظل متغيرات دولية وإقليمية جارفة.
وداخل هذه السياقات الراصدة للأحداث وللتحولات، انتبهت المؤلفة إلى مآل النخب اليسارية المغربية تحت وقع تحولات جوهرية أفرزها واقع التعايش والتسامح الدينين، الأمر الذي جعل الانتقال يتم بشكل سلس من واقع «يهود السلطان» الذي طبع مرحلة القرن 19، إلى مطلب «شيوعيي السلطان» الذي جعل المواطنين المغاربة اليهود درعا فاعلا مؤثرا داخل نسيج الهوية المغربية المركبة. باختصار، دافعت المؤلفة على مبدأ الاستمرارية الموصولة في العلاقة بين مؤسسة السلطان من جهة، وبين رعاياه من اليهود المغاربة من جهة ثانية، وذلك على امتداد العقود الزمنية الطويلة الممتدة. وتجاوز الأمر ذلك، بأن أصبحت النخب اليسارية اليهودية المغربية حاملة لمشاريع رائدة لتحصين سيادة الدولة وللدفاع عن ثوابتها، في وجه إكراهات الداخل أولاً، ثم في وجه تحديات المحيط الإقليمي والدولي ثانياً.
وبذلك، نجحت ألما راشيل هاكمان في تقديم عمل أكاديمي غير مسبوق، في مواده الخامة وفي طرق تجميع مظانه وفي أشكال استثمار عناصره المعززة للمتن مثل المقابلات الشفوية والكتابات الصحفية والصور الفوتوغرافية والتقارير الديبلوماسية والوثائق الدفينة المحفوظة في جهات مختلفة من العالم. فإذا كان مجال البحث ظل غنياً بأعمال قطاعية حول واقع اليهود المغاربة قبل الاستعمار أو بواقع اليهود المغاربة الذين غادروا وطنهم عام 1956، فإن هذا العمل يشكل -في حدود علمنا المتواضع- أول نبش أكاديمي في مسارات سير اليهود الذين قرروا البقاء في وطنهم بعد حصول البلاد على استقلالها، بتحدي انغلاق المجال السياسي ودوائر الفعل فيه في ظل حالة تقاطع المواقف بين حركات مناهضة الاستعمار أولاً، وتيارات القومية العربية ثانياً، ثم مخططات الحركة الصهيونية ثالثاً. لقد نجح الكتاب في تسليط الضوء على عمق التأثير الذي خلفه المكون اليهودي في مشاريع بناء الحركة اليسارية المغربية، خاصة الراديكالية منها، مثلما نجح في إبراز عمق الارتباط الروحي الذي طبع التفاف نخب اليهود المغاربة حول مطلبين متكاملين لعلهما يشكلان جوهر هوية اليهود المغاربة راهناً. يرتبط أولهما بالانخراط في مشاريع التغيير المجتمعي من وجهة نظر يسارية مبادرة، عبر إطارات شيوعية انخرط الفاعلون فيها بعد أن «يئسوا» من عقم الخطابات الإصلاحية والسلفية والعروبية التي تلونت بها الحركة الوطنية المغربية قبل الاستقلال وبعده. فلم يكن لهم من بديل غير الأفق العلماني الذي عكسته تنظيمات اليسار، سواء منه الراديكالي أم القانوني. ويرتبط المطلب الثاني، بعودة الروح إلى عمق الانتماء الهوياتي لهذه النخب اليسارية، الأمر الذي حمل تعبيرات عميقة عن أبعاده، من خلال تحقيق المصالحة المُلحة مع نظام الحكم، ثم من خلال مشاريع رائدة لصيانة الذاكرة اليهودية المغربية عبر مبادرات غير مسبوقة غطت جوانب من التراث العبري المغربي. نجد تعبيرات عن المطلب الأول في صورة «بديلة» طفت على السطح لرموز التيار الراديكالي مثلما هو الحال مع أبراهام السرفاتي، ونجد تعبيرات عن المطلب الثاني في أعمال احترافية للاشتغال على ذاكرة متاحف اليهود المغاربة، ثم في الانخراط في «وضع البصمة» على المسار العام للدولة وللمجتمع، الأمر الذي زكاه دستور 2011 عندما أعطى قيمة اعتبارية للمكون اليهودي الوطني، باعتباره أحد الروافد الأساسية للهوية المغربية المركبة.
وبذلك، فتح الكتاب آفاقاً جديدة للبحث في طابوهات الزمن المغربي الراهن، وفق رؤى متحررة من ضغط تواتر الوقائع السياسية الآنية، ومن الرؤى «الوطنية» المطمئنة ليقينياتها ولأحكامها الجاهزة. لم تكن مشاركة اليهود المغاربة المنتمين لتنظيمات اليسار المشتغل على مشروع التحرير الوطني المغربي، مجرد نزو عابرة حفزتها يوطوبيات متياسرة وحاملة لأحلام براغماتية ضيقة، بقدر ما أنها عكست إرادة قوية في ترسيخ الانتماء للتربة وللهوية، وقبل ذلك، للوطن وللكينونة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 01/11/2024