يوسف سلامة:02 : اكتشاف الحداثة في التراث تزييف للتراث والحداثة معا!

بخلاف عدد كبير من المفكرين العرب، ينشغل المفكر يوسف سلامة بأبحاثه وعمله كمفكر وأكاديمي، بعيدا عن السّجالات الإعلامية التي قد تأخذ طابعا دعائيا، مفضلا الخوض في حواراته مع تلاميذه و يقول إنه سيضع قريبا كتابا حولها، مشيرا إلى أنها لا تنفصل عن سياقه الفكري وبحثه طيلة عقود والذي أثمر ثلاثة مؤلفات فكرية بدءا بمنطق هوسرل ومرورا بسَلب هيغل وانتهاء بطوباوية الإسلام.

 

إذا ما مهمة الفيلسوف العربي في ظل غياب شرط الحرية- كما تشير في عدد من مقالاتك؟

على اعتبار أني أرى أن هناك جهدا فلسفيا، وأعتقد أننا نتفلسف، فالفلسفة تحتاج أولا وقبل كل شيء إلى التحرر الباطني، بمعنى أن يخلي الفيلسوف عقله من كل قيد أو افتراض مسبق، لأن الفلسفة تفترض البحث عن الحقيقة، فإذا كان الذهن مملوء بالحقائق سلفا فلا يمكن لهذا الذهن أن يتفلسف، فإذا حقق الفيلسوف هذا التحرر الباطني، يمكن له أن ينهض بمهمات أساسية لا يستطيع أن ينهض بها غيره في مجتمع اللاديمقراطية، المهمة الأولى هي الدفاع عن الحرية، وهي المهمة الأهم، بمعنى أن يطالب الفيلسوف بتحقيق الحرية في العالم الفعلي للبشر، وليس على المستوى الذهني فقط الذي هو متحقق له على الأقل.
فالفيلسوف مهمته أن يقاتل من أجل تحرير البشر (تحرير أذهانهم) من الخرافات والأساطير التي تشكّلت عبر مئات السنين وأصبحت عبارة عن عقبات بين الإنسان ونفسه، حيث أصبح الإنسان العربي لا يستطيع أن يصل إلى ذاته الحقيقية لأن مجموعة هائلة من الأساطير والخرافات تحول بينه وبين ذاته وتحاصره من كل اتجاه.
فإذا الدعوة إلى الحرية هي المهمة الأولى، الدعوة إلى الديمقراطية والدفاع عنها هي المهمة الثانية، والدعوة إلى العقلانية وأن يكون كل شيء محكوما بالعقل هي المهمة الثالثة، هذه المهمات عاجلة لا يمكن للفيلسوف أن يتغاضى عنها، وأعتقد أن من يتابع ما نكتبه يشعر بأننا لا نترك منبرا إلا ونحاول أن ننتفع به ونوظّفه لتحقيق هذه المهمات الثلاث (الحرية -الديمقراطية -العقلانية)، وإذا قال أحد ما: هذه أمور إيديولوجيا فنقول له: هي إيديولوجيا جزئية، ولكن حقيقة الإنسان التي يبحث عنها الفيلسوف قائمة في هذا التحرر الباطني والفعلي، وفي هذه الديمقراطية وإطلاق حرية العقل، بحيث لا يكون ثمة حكم ولا مرجع يعلو على سلطة العقل، هذه هي المهمات العاجلة، لكن ربما تكون هناك مهمات فلسفية تحتاج إلى حديث آخر.

دعني أنتقل للحديث عن إشكالية أخرى تبدو أكثر تعقيدا وتنطوي حول مصطلح صراع الحضارات الذي بشّر به صموئيل هنتنغتون، وأنت لديك مقال في هذا الشأن تفند فيه البنية المتناقضة للخطابين العربي والأمريكي في عالم ما بعد 11 شتنبر.

حقيقة هذه الأفكار التي ذكرتها كتبتها منذ سنوات، وقد حدث تطور في فكري من هذه الناحية، أنا أعتقد أنه لا يوجد صراع حضارات بالمعنى الدقيق للكلمة وإنما هناك صراع مصالح، والحضارات أو الثقافات يمكن أن تستخدم في هذه الحالة كإيديولوجيات مُغلّفة لهذا الصراع على المصالح، يعني لا يهمّ الثقافة الغربية أن تكون الصين بوذية أو كنفشيوسية أو ماركسية أو أن يكون العالم العربي إسلاميا، بل يهمّ كل طرف من هذه الأطراف أن يصل إلى مصالحه مع الطرف الآخر، مثلا الآن روسيا لم تعد شيوعية، وبالتالي هي الآن من الناحية الثقافية أقرب إلى أوروبا، وإلى الثقافة الغربية، ومع ذلك فأوروبا تلجأ للاعتراف باستقلال كوسوفو على اعتبار أن هذا يضعف النفوذ الروسي ويقتطع جزءا من صربيا التي هي حليف لروسيا، كما أن روسيا التي تفكر في مثلها الأعلى الأوروبي لا يمكن أن تُقبل في الاتحاد الأوروبي بحال من الأحوال، لماذا؟ لأن المصالح مختلفة.
إذا ،لم يعد هناك صراع إيديولوجي بين أوروبا وروسيا، ولكن صراع المصالح مازال قائما، حتى بين روسيا والولايات المتحدة لا توجد فروق إيديولوجية، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تحاول أن تنشر الدرع الصاروخية في تشيكيا وبولونيا، فالصراع هنا سياسي واقتصادي، صراع على النفوذ والقوة وعلى الهيمنة والمصالح الاقتصادية، فالمسألة ليست مسألة صراع حضارات بقدر ما هي صراع مصالح وصراع على الهيمنة السياسية، لذلك يجب أن نعيد صياغة هذه المسائل ونضعها في هذا الإطار، ربما كان هذا أفضل.

لكنك تميل إلى إلغاء مصطلح يؤكده عدده كبير من المفكرين، وربما هذا دعا بعض المفكرين الإسلاميين إلى طرح مصطلح بديل هو حوار الحضارات.

أبدا، في رأيي أن الحضارات تتعايش، العالم اليوم مختلف كليا عما كان عليه قبل 1000 عام، في ذلك الوقت كانت هناك حضارات تنشأ وتزدهر وتفنى دون أن تشعر بها الحضارات الأخرى، أما اليوم، وهذا من حسنات العولمة والثورة المعلوماتية، أصبح العالم واحدا، والحضارات الآن تتعايش بقدر ما يمكن لكل حضارة أن تمتلك نفوذا، وهي ليست مضطرة أن تلغي الحضارات الأخرى.
وأشير هنا إلى أن الحرب الكونية الأمريكية على الإرهاب، الشعار الذي أطلقه بوش ليست حربا مسيحية أو صليبية (بالمعنى الثقافي للكلمة) على الإسلام أو العكس، ودليلنا على ذلك أنه قبل 11 سبتمبر لم يكن هناك شيء اسمه “إرهاب إسلامي”، بالتالي لم يكن الإسلام يمثل خصما للولايات المتحدة، بل بالعكس في فترة الحرب الباردة وجدت أمريكا في الإسلام خير حليف لها ضد الشيوعية، فكانت تدعم الحكومات الإسلامية -أو التي ظاهرها إسلامي- في إيران وتركيا والبلاد العربية، ففي الصراع داخل أفغانستان شكل الإسلام والولايات المتحدة تحالفا استراتيجيا خطيرا أدى إلى هزيمة السوفييت،فليست المسألة مسألة صراع، بل هي مرتبطة إلى حد ما أيضا بنوع من توافق المصالح واختلافها.

ربما بهذا المعنى نستطيع القول إن الثقافات تتعايش أيضا، وبالتالي مقولة صراع الثقافات لا أساس لها، ما رأيك بذلك؟

تماما، لأنه ضمن المجتمع الواحد هناك ثقافات مختلفة، ألمانيا مثلا فيها البرتستانتية والكاثوليكية وهما متعايشتان، وفرنسا أيضا تحوي الكاثوليكية واللادينية ومتعايشتان أيضا، كما أن المجتمع العربي فيه المسيحية والإسلام والصابئة وغيرها وهي جميعها متعايشة، لكن المشكلة تأتي عندما تنظر ثقافة ما إلى نفسها على أنها الثقافة المُثلى والنهائية، عندئذ تتحول إلى ثقافة عنصرية، فما لم تكن الثقافة عنصرية فالتعايش معها ممكن.
ونستطيع القول إن الثقافة الأوروبية قد مرت بمراحل عنصرية، ولكن ليست كل الثقافة الغربية ثقافة عنصرية، كما أننا نحن العرب مررنا أيضا بمراحل من الثقافة العنصرية، تخيل أن دولا عربية كانت تسمي غير العربي أعجميا أي غير آدمي وهذا نوع من العنصرية، ومع ذلك نحن اليوم تجاوزنا هذه المرحلة، وأصبحنا على سبيل المثال نستطيع أن نتحالف مع إيران التي شكلت في وقت ما النقيض التاريخي للمشروع العربي على الأقل في الدولة الأموية.

بهذا المعنى أنت لست مع مفهوم الغزو الثقافي الذي مارسه العرب في مرحلة سابقة، وتمارسه الدول الغربية في العصر الحالي كما يؤكد بعض المفكرين.

هذا تحرك طبيعي للثقافة، الثقافة بطبيعتها تميل إلى الانتشار والخروج من بيئتها الضيقة، وكل الأمم تمارس هذا بحسب قوتها وضعفها، أنا لا أسمي هذا صراعا ولا أسميه غزوا، وإنما أسميه نوعا من بحث الثقافة عن مجال حيوي تستطيع أن تعبّر فيه عن ذاتها أكثر فأكثر، يعني الفتوحات الإسلامية ما هي؟ هي نشر للثقافة والديانة الإسلامية، وكان هذا أمر طبيعي الحدوث.
وبالمقابل اليوم أنا عندما أتأثر بالثقافة الغربية عن طريق الكتاب أو الإنترنت أو أي وسيلة أخرى، فهذا أمر طبيعي ومن العبث أن نغلق الأبواب أمام هذه التأثيرات، من هذه التأثيرات يظهر الجديد، يعني الأمم عندما تؤثر ببعضها وتتفاعل يظهر الجديد، أما لو كانت كل أمة عاشت في مستنقع وأغلقت على نفسها، فعندئذ ستنهار الإنسانية وتنقرض، والعرب عندما نشروا الإسلام في بقاع الأرض، دخلت شعوب متعددة إلى الإسلام فأغنته وأغنت الثقافة العربية، ولذلك نحن لا نقول الثقافة العربية نقول الحضارة العربية الإسلامية، لأن ابن سينا والفارابي وغيره ليسوا عربا ومع ذلك أغنوا الثقافة العربية، والمترجمون الذين ترجموا الثقافة اليونانية إلى الثقافة العربية كلهم سريان، أي أن تفاعل الثقافات والأمم هو الذي ينتج جديدا.
ونحن اليوم لأننا لا نتفاعل بالقدر الكافي نشعر بأننا مضطهدون في هذا “الغزو الثقافي”، لكن لو كنا منتجين للثقافة لكان لنا رأي آخر، من هنا إذا أردت التصدي لما يسميه البعض غزوا ثقافيا، فليس هناك حل إلا أن تنتج ثقافة وتطرحها على الآخرين لكي يقرؤوها وينتفعوا ويتأثروا بها، أما أن تكون غير قادر على الإنتاج ولا تريد لغيرك أن ينتج، فهذا من التناقض بمكان، وأي عملية إنتاج تفترض الانتشار، يعني الكاتب لماذا يكتب؟ ليُقرأ وكلما كان عدد قرائه أكبر كلما دل ذلك على أن أثره أوسع، فالثقافة بطبيعتها فيها ميل للانتشار، وميل إلى أن تعيّن نفسها في أكبر عدد ممكن من الوقائع والأماكن.

سأنتقل للإشكالية الأخيرة «الحداثة» التي تلقى قبولا لدى عدد كبير من المفكرين، فيما يسعى دعاة القدامة إلى محاربتها على اعتبار أنها تمثل انهيارا للدين والقيم، والسؤال ما هو تعريفك للحداثة كمفهوم؟ ومتى نشأت؟ وما سبب نشوئها؟ وما سمات حضارة الحداثة؟

سأجيب بعجالة على سؤالك الذي يحتاج حوارا مستقلا، الحداثة هي “الثقافة التي تقول إن الإنسان هو سيد العالم بذاته وبحريته وعقله وهو من ثم واضع للقيم التي يتقيد بها أو يرفضها”، فالحداثة إذا أن يكون العالم إنسانيا بكل ما في الكلمة من معنى، ومصدر السلطة الوحيد هو الإنسان، وبهذا فالحداثة خلعت جميع الآلهة عن عروشها ونصّبت إلها واحدا على العالم هو الإنسان.
نشأت فكرة الحداثة في العالم الأوروبي ابتداء من عصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر عندما تم الحدّ من سلطان البابوات والكنيسة السياسي، فبدأت بذرة العلمانية أو “جرثومتها” عندما طالب “لوثر” بحقّ الملوك في الاستقلال عن البابوات، ولكن الحداثة بلغت ذروتها في نقطتي تحول رئيسيتين الأولى: نقطة التحول في العلم، وذلك عندما ولد المذهب التجريبي مع “بيكون” في القرن السادس والسابع عشر، أما نقطة التحول الثانية- وربما كانت الأهم- هي اكتشاف الإنسان في الفلسفة الديكارتية، عندما قرر “ديكارت” في القرن السابع عشر أن العقل هو أعدَل الأشياء قِسمة بين الناس، وأن الفارق الوحيد بين البشر هو استخدامهم لهذا العقل أي الفارق المنهجي، ومن هنا طوّر منهجا فلسفيا وسمح له بالتقدم إلى ابتكار الفيزياء الرياضية التي شكلت قاعدة العلم الحديث، والتي سمحت بالانطلاق إلى شتى أنواع العلم (ميكانيكا نيوتن ثم آينشتاين).

ما سمات حضارة الحداثة؟

الفردية – الخصوصية- الحرية- اختيار القيم أو رفضها بحرية تامة دون الاحتكام إلا إلى معيار واحد هو الإنسان، هذه وُجدت ونمت بالتدريج إلى أن أصبح اليوم مجتمع الحداثة الأوروبي والأمريكي فيه فردية وخصوصية وحق في اختيار الإنسان لصناعة القيم كما يراها مناسبة، واختيار نمط العيش على النحو الذي يريده، كل ذلك في إطار المؤسسات التي أبدعتها الحداثة، مؤسسات الديمقراطية من ناحية والمؤسسات العلمية من ناحية أخرى.

ما رأيك بلجوء بعض المفكرين إلى التراث لتوظيفه في معركة الحداثة ضد دعاة القدامة؟

أعتقد أن الحداثة هي الحداثة ولا نستطيع إلا أن نبتدئ من نقد ما هو قائم أي من نقد الماضي الماثل في الحاضر، دون أن نزيّفه، أيّ اكتشاف للحداثة في التراث هو تزييف للتراث وللحداثة في آن واحد، ولذلك فإن الطريق المستقيم يبدأ بنقد الحاضر الذي هو في صميمه ماضي، وفي محاولة لكسح هذه العقبات القائمة في وجه التقدم والعقلانية والحرية والديمقراطية والعلمانية في سبيل إنتاج إنسان من نوع جديد.


الكاتب : حاوره: حسن سلمان  

  

بتاريخ : 19/07/2017