كان يا ما كان في قديم العصر والأوان، منذ عقود خلت، كنا مستبشرين بانتهاء عام عصيب وبداية آخر، عام يقفل عشرين سنة بعد الألفين ، عشرين سنة رأينا فيها أهوالا جسام وأحداثا أثقلت كاهل التاريخ بزخمها ووحشيتها، كان يحذونا أمل دفين في أن هذا العام سيكون عام الخير، عام التغيير ، بدأنا نخطط ونرسم لمستقبل أجمل.
حضرتني في تلك الأيام رواية «مائة عام من العزلة» قرأتها قبل عقدين من انتشار الوباء.
أتذكر أنني تشاءمت كثيرا من عنوانها خاصة وأنها كانت هدية بمناسبة عيد ميلادي، لكنني حين فتحت أسوار «ماكوندو» وتهت بين أزقتها، أحسست بمتعة لا توصف… أبداع لا متناهي يأخذك إلى عوالم أسطورية تتمنى ألا تعود منها، رغم أجواء التلوث والعفن التي كان يعيشها آل «بونديا» جراء الوباء الذي فتك بالأجساد والعباد بل فتك بالأعراف وبكل الثوابت المرجعية.
هو نفسه الوباء الذي كنا نعيشه وقتذاك، فتك بكل ممارساتنا اليومية. كل ما كان عاديا نعمله بشكل آلي أصبح استثنائيا يشرع له ويقنن، تصدر فيه القرارات وتطبق العقوبات وتفرض الغرامات.
كانت دوريات الأمن في كل مكان، تسألك عن وجهتك ولا تكتفي بمجرد جواب، بل تلزمك بإقرار شخصي مكتوب وإذا تبث عدم صحته تتعرض للسجن وتدفع غرامة، لا لأنك ارتكبت جريمة أو خالفت قانون السير. لا. فقط لأنك ذهبت إلى مكان ليس مكان عملك ولا صيدلية فيه.
وباء فتك بكل الثوابت والمسلمات.. لا شيء ظل كما كان، كان نقطة تحول في مسار التاريخ… حقبة ما قبل الوباء وحقبة ما بعد الوباء.
استيقظنا ثالت يوم من العزلة على أخبار تقول بأن الصين قد بعثت لنا طائرة محملة بالمعونات الطبية وبالخبراء الذين كسروا شوكة السيد كورونا في «يوهان»، الكثير منا أحس بالخجل، صفعة مؤدبة لكل من كان بالأمس يستهزئ بهم ويبتعد عن أطفالهم كأنها فيروسات.
درس في الأخلاق وأدبيات التعامل لقنه شعب «كونفوشيوس» لكل من نعث أهله بأكلة الثعابين والخفافيش.
بالأمس كنا نعتد بقوتنا وبتحالفاتنا وبكوننا غصن من تلك الشجرة الضاربة في التاريخ…السنا دولة مؤسسة للاتحاد الأوروبي؟ ماذا عساه أن يقع؟ وقع الكثير…
توالت الأخبار كالحة كالموت ومرة كالحنظل. عدد الموتى والمصابين في تزايد مهول رغم ما قدمناه من تضحيات.
أطلت علينا تلك العجوز الشمطاء، مديرة البنك المركزي الأوروبي بكلام كأنه قد من صخر، كسر مجذاف النجاة الذي كنا نتعلق به كي لا نغرق.
لكننا شعب لا يستسلم للاكتئاب، شعب يحب الحياة ويقاوم الى آخر قطرة في دمه لينهض من جديد.
فرغم عزلتنا كنا نعانق بعضنا من شرفات البيوت ونبعث بقبلات للجيران. جيران لم نكن نعرفهم ولا نعرف أسماءهم في حقبة ما قبل الوباء. لأننا كنا نركض ونركض وراء مشاغل الحياة اليومية.
تواعدنا على الخروج إلى الشرفات في السادسة مساء لنغني جميعا النشيد الوطني. كانت لحظة مؤثرة جدا. أتذكر أن عيناي قد دمعت رغم أنى لست إيطالية وأجدادي لم يقاوموا ضد النمسا ولا عاشوا عصر النهضة.
كنا كلنا إيطاليين وكانت إيطاليا وطننا جميعا.
كنا في محنة يجب أن نخرج منها. كــــلنا.
يتبع..