يوميات من جحيم طوكيو : وأخيرا جاء الفرج والمصير متوقف على تحليلة تاسعة

لم أكن أعتقد وأنا أطأ بلاد الساموراي، أن المطاف سينتهي بي محتجزا في حجرة صغيرة، لا تتعدى مساحتها 16 متر مربع، أنتظر مصيرا مجهولا، بعدما تأكد أنني خالطت الزميل يوسف بصور، صحافي جريدة الأحداث المغربية، حيث كنا نقيم في نفس الغرفة ونقتسم الأكل والشرب، وحتى التنقل، حيث كنا إلى جنب طيلة أيامنا الأولى بالعاصمة طوكيو، في أول مهمة رسمية لي خارج المغرب.
مرت على هذا الحال عدة أيام، أبحث فيها من معلومة ولو بسيطة، تشفي غليلي، وتريح أعصابي، التي توثرت إلى حد لم أعد فيه أطيق سماع كلمة «اصبر»، لأنني أصبحت أشفق على نفسي، رغم محاولات الزملاء الصحافيين، الذين ما فتئت اتصالاتهم تخفف عزلتي، وترفع معنوياتي.

كل شيء حرام

أيقنت مع نفسي أن لا مفر لي من قضاء فترة الحجر الصحي بكاملها باليابان، وسأبقى لوحدي هنا، بعدما يعود الجميع يوم الاثنين، لكني ارتحت بعض الشيء عندما علمت أن شخصين من موظفي اللجنة الوطنية الأولمبية سيظلان هنا إلى غاية يوم الأربعاء المقبل، إذ يتعين عليهما إنهاء الترتيبات الإدارية والمحاسباتية المتعلقة بالإقامة المغربية بطوكيو طيلة فترة الألعاب.
حاولت أن أسلي نفسي بأي شيء، علي أتغلب على هذا الملل الذي يحطم معنوياتي. في خضم هذا العراك مع الضجر والقنوط، توالت علي اتصالات زملائي الذين سبقوني في العودة إلى المغرب، حيث كان وصولهم مساء الجمعة. حاولوا أن يرفعوا معنوياتي من خلال الحديث عن ذكرياتنا والطرائف التي كانت تقع لنا، خاصة عندما اكتشفنا في اليوم الثاني من وصولنا إلى اليابان، أن أغلب المأكولات التي تناولناها في ليلتنا الأولى لم تكن حلال، وكيف أن مواطنا بنغاليا يشتغل في أحد المحلات التجارية، أكد لنا أن كل ما يحتويه هذا المتجر من مواد غذائية حرام، لأن فيها خلطة تتضمن سحم أو زيت الخنزير، وحتى تكون دهشتنا أكبر، قال لنا إن الياغورت حرام، وسندويتش الجبن أيضا، لأنهما يحتويان على مواد «خنزيرية»، مشددا على أنه هو شخصيا لا يتناول من منتجات هذا المحل.
نزل كلام هذا الشخص علينا مثل حمام ماء بارد، فقررنا استشارته بشأن ما يمكن لنا أن نقتنيه، فاقترح علينا بعض المواد البسيطة للغاية، بعدما أطال الفحص وقراءة تركيبة المواد المعروضة.
كان الوقت ليلا، وعلينا أن نأخذ شيئا نأكله لأننا عدنا متأخرين جدا من حفل الافتتاح. فأخذنا الماء وبعض العصير وبعض الفواكه، وقطعة حلوى قال إنها حلال.
بعدها سأقرر رفقة الزملاء بصور وبلمكي ومحسن صلاح الدين تعميق البحث أكثر، فلجأ الزميل صلاح الدين إلى مسجد قريب من محل إقامتنا وسأل هناك عن أماكن الأطعمة الحلال، لكن عدم توفرنا على الأنترنيت عقد عملية البحث، رغم أن الزميل محسن جاءنا ببعض العناوين لمحلات هندية توفر الأطعمة الحلال. ومنذ ذلك اليوم بات البيض والفواكه وجباتنا المفضلة، رغم أن أثمنة الخضر والفواكه باهضة للغاية، ذلك أن تفاحة واحدة يفوق ثمنها 15 درهما مغربية، وكذلك الشأن بالنسبة للخوخ والموز، أما العنب فأغلى شيئا ما.
إن كلفة الحياة بالعاصمة طوكيو تعد الأعلى على المستوى العالمي، حيث الأثمنة مرتفعة للغاية، فعلى سبيل المثال تكلف خبزة «باريزيان» واحد 120 ين، أي ما يعادل عشرة دراهم مغربية أو يزيد قليلا.
والغريب أننا عندما اهتدينا إلى عملية الترجمة الفورية عبر «غوغل» اكتشفنا أن معطيات صاحبنا لم تكن بالدقة العالية، حيث أن الياغورت على سبيل المثال لا يتضمن أي مادة حرام، وعدنا إلى المحل نبحث عن صاحبنا، إلا أننا لم نجد له أثرا.

وأخيرا وجدنا أثرا مغربيا

بعد فترة قصيرة سيتصل بي عبد الله الناصري، وهو مواطن مغربي يقيم بطوكيو منذ ثلاث سنوات، رفقة زوجته اليابانية. كانت الفرحة كبيرة بالنسبة لهذا الرجل المنحدر من جنوب المغرب، والذي كان يشتغل في بدايته في مجال تنظيم الرحلات السياحية إلى الجنوب المغربي، قبل أن يقرر الاستقرار في هذا البلد الآسيوي، لأنه وجد أحد أبناء جلدته، بعدما عاش وحيدا في هذا الحي المتواجد في أطراف العاصمة طوكيو، حيث أكد لي أنه ربما العربي الوحيد الذي يتواجد في هذه المنطقة.
دام حديثنا الهاتفي مدة من الزمن، فرح كثيرا بسماع صوت مواطن مغربي، لأنه افتقد الحميمية المغربية منذ ثلاث سنوات تقريبا، آملا تجديد الوصل بوطنه فور انتهاء الجائحة. أخبرني كيف التقى بزملائي المغاربة، حينما كان يمر بدراجته الهوائية، والتي تعتبر وسيلة النقل الأساسية في العاصمة طوكيو، فجأة سمع كلمات بالدارجة المغربية على مقربة منه. توقف والتفت فإذا بثلة من المغاربة جالسون على كرسي خشبي بالحديقة العمومية. ترجل عن دراجته الهوائية، وتوجه إليهم فكان التعارف وتبادل أرقام الهاتف.
تأسف عبد الله لعدم رده على اتصالاتي الهاتفية، لأن مشاكل العمل وضغط الحياة بهذا البلد لا تسمح بكثير من الواجبات الإنسانية. أخبرته بأني أحمل له هدية من الزميلين محمد صامت وأمين العمري، عبارة عن تمر ولوز وحلويات مغربية، حيث قلت له إني سأتركها له بالاستقبالات، وبإمكانه أن يأخذها متى شاء.
قبل أن ننهي الحديث ضربنا موعدا في نهاية الأسبوع، لأنها هي الفترة التي يكون مسموحا له، زمنيا بطبيعة الحال، ببرمجة بعض الأمور الخاصة، علما بأنه حتى خلال نهاية الأسبوع يكون المواطن الياباني رهن إشارة العمل، حيث يمكن المناداة عليه في أي وقت، الأمر الذي يجعل اليابانيين لا يقدمون على برمجة كثير من الأمور الاجتماعية، ويبدون كما لو أنهم في عزلة عن العالم الخارجي.
أخبرني عبد الله أن الإنسان الياباني يقدس العمل إلى إلى درجة العبادة، وهو عندهم من المهد إلى اللحد، حيث تجد شخصا جاوز الستين ومازال يعمل، لأن نظام الحماية الاجتماعية ضعيف، ولا يضمن العيش المثالي عند التقاعد، الأمر الذي يفرض عليهم الاستمرار في العمل حتى سن متأخرة.
وقد لاحظت شخصيا أن السيدة المكلفة بتنظيف الغرف داخل الفندق تجاوزت الستين، ومع ذلك مازالت تشتغل وبحيوية وخفة.
وعدني عبد الله بتنظيم جولة لزيارة بعض الاماكن العامة في العاصمة طوكيو، حيث قلت له إنني سأكون جاهزا حالما أنهي الحجر والحصول على وثيقة إطلاق السراح، فضربنا موعدا في هذا الإطار، لأنني كنت على يقين تام بأن مغادرة التراب الياباني قبل انقضاء مدة الأربعة عشر يوما ضرب من الخيال.
مباشرة بعدها، وبينما لم أكد انهي الاتصال بهذا المواطن المغربي، حتى رن الهاتف، فكان المتصل إسماعيل من اللجنة الوطنية الأولمبية.
مباشرة بعد التحية، قال لي «إن الله مع الصابرين». لقد حصلت أخيرا على موافقة من السلطات اليابانية بإمكانية عودتك إلى المغرب قبل نهاية مدة الحجر الصحي، مضيفا، بنبرة تملؤها الفرحة، أن تدخلات متعددة، واتصالات مكثفة مكنت اليابانيين من تليين موقفهم.
طلب مني إجراء تحليل في صباح الغد، وأحمله مبكرا إلى مكان إيداع العينات بالمركز الإعلامي. قلت له إنه لا يمكن لي مغادرة الفندق والقيام بإيداع العينة بنفسي، فطلب مني تكليف الفندق بهذا الأمر.
نزلت على التو إلى مصلحة الاستقبالات، كانت الساعة تشير إلى حوالي العاشرة ليلا، وجدت هناك شخصا في بداية الثلاثينات من العمر، لكن المشكل كان في أنه لا يجيد سوى الحديث بالانجليزية واليابانية. طلبت مساعدة خاصية الترجمة الفورية على غوغل. أخبرته بأني مطالب بإرسال عينة تحاليل إلى المركز الإعلامي، وليس لي من يتكلف بالأمر، لأن كل رفاقي غادروا إلى المغرب. وبما أن الفندق تكلف بالأمر في الأيام الأولى لنا باليابان، أرجو أن تقدموا لي هذه الخدمة، حتى أحصل على النتيجة في المساء، وبالتالي مباشرة إجراءات السفر. قال لي إن الفندق لا يتكلف بهذه المهمة، وبعد إلحاح شديد، أخبرني بأن شخصا يمكن أن يأتي في الغد ويمكنه أن يأخذ العينة، لكنه يجهل موعد حضوره. وفعلا فقد أتي ذلك الشخص في الغد، حيث اتصل بي الموظف، لكن في حدود الواحدة بعد الزوال. وهو توقيت ليس في صالحي على الإطلاق، لأني أصبحت أجري ضد الوقت.
بعد العودة إلى الغرفة، بدأت أبحث عن حل بديل، فلم يكن أمامي غير يوسف بصور، الذي عاد في المساء إلى الفندق بعد استكمال رحلة العلاج، سألته إن كان بإمكانه قضاء هذا الغرض، فوافق على الفور، رغم أنه تلقى من المركز الطبي الذي أشرف على علاجه أمرا بعدم الاقتراب مني.
في تمام الثامنة من صباح أول أمس الأحد (08 غشت)، كان الزميل يوسف يطرق بابي، حاملا إلي وجبة الفطور، معتقدا بأني مازلت ممنوعا من النزول إلى المطعم. شكرته وسلمته العينة، وغادر في جو ممطر للغاية إلى مكان إيداع التحليلات بالمركز الإعلامي.
وتعد هذه هي التحليلة التاسعة التي خضعت لها طيلة مقامي باليابان، والذي امتد لثلاثة أسابيع، حيث أجرينا جماعة ثلاثة تحاليل متتالية في أيامنا الأولى، أعقبتها تحليلة بعد أربعة أيام من آخر عينة، وأخرى بعد أربعة أيام أخرى، حيث كانت قد تبقت لنا تحليلة واحدة فقط بعد أربعة أيام، لننهي البروتوكول الذي تعاملت به السلطات اليابانية مع كل الوافدين خلال فترة الألعاب، لكن إصابة بصور بالفيروس، فرضت علي إجراء أربعة تحاليل إضافية.
كانت فرحتي كبيرة بخبر إمكانية المغادرة، رغم أن إسماعيل طلب مني عدم التحمس، إلى حين التأكيد الرسمي، والذي سرعان ما جاءني من رئيس الوفد المغربي.
استأذنته في أمر إخبار زوجتي وأولادي، فوافق بشرط عدم إخبار أي أحد آخر. اتصلت بزوجتي، فإذا بابني ياسر، ذي الثمان سنوات يجيب، فخاطبني بابا. قلت له على الفور سأعود يوم الاثنين، فطار فرحا وصار يصرخ « بابا غادي يجي يوم الاثنين» سمعت زوجتي صراخه، وأمسكت الهاتف منه وسالتي هل صحيح ما يقول ياسر؟. أجبت: نعم لقد أخبروني للتو بإمكانية العودة على متن طائرة مساء الاثنين، بشرط أن تكون التحليلة سلبية.
كانت فرحتنا كبيرة وعارمة، لأننا عشنا أياما من المعاناة والضغط النفسي الرهيب، لكن فرج الله كبير.
وبسرعة البرق وصل الخبر، عبر نعيم، إلى رفاق السفر، الذين عادوا لربط الاتصال بي مقدمين تهنئة الخروج من «حالة الاعتقال»، بعدما أجبرهم هذا الطارئ على تغيير البرنامج، وتقديم موعد العودة إلى المغرب، لأن ما تعرضت له أنا وما عاشه الزميل بصور قلب كل التوقعات، وأفشل كل المخططات. لقد فرض علينا العودة من طوكيو كما دخلناها أول مرة، حيث لم تتح أمامنا فرصة الاطلاع على جمال وعظمة هذه المدينة، والوقوف على تميز الإنسان الياباني.


الكاتب : طوكيو: إبراهيم العماري

  

بتاريخ : 10/08/2021