يوم آخر

 

(إلى عزيز جعتوري ملهم هذه الكلمات
لم أتأخر كثيرا حين قررت أن أحمل حقيبتي الصغيرة بها كتب وقنينة ماء وعلبة سجائر تركية ..سوف أختار مكانا هادئا منزويا
أشرب قهوة وأدخن، وربما أقرأ شيئا أو اكتب. أو أفكر قليلا لوحدي لبعض الوقت ريثما يتضح شكل العالم والحياة.
وفعلا ارتميت في أول سيارة أجرة. كان يسوقها رجل مسن سبعيني. لامبالٍ ومدخن شره، كان يشتم السائقين والراجلين على السواء. قال ان ابنته مريضة ويحتاج خمسين درهما لشراء الدواء قبل أن تقفل الصيدليات. كنت أعرف أنه قال هذه الجملة مرارا وآخرها كانت قبل شهر ونصف، ومنحته بضعة دراهم..
حين بلغنا الضوء الأحمر، توقفت السيارة بصعوبة، هل فقد التحكم في تلك اللحظة، أو كان ساهما بالتفكير في شيء آخر؟ لا أجزم .
تغيرت إشارة المرور لكنه لم يأبه بذلك، وظل جامدا منحنيا على المقود.
كنا في منتصف العام بين الربيع والصيف..والجو ثقيل والشوارع مقفرة..إلا من طيور غريبة جاءت بأسراب فجأة وصارت تحوم حول المنازل والنفايات وتهاجم الناس.
وفي المقعد الخلفي قالت سيدة بصوت حنون:
من يدري ربما هذه الطيور تناجي الله لأجل هذه المدينة.
كانت امرأة على عتبة الأربعين. بوجه أبيض مستدير، وعينان واسعتان يشع منها سواد فاتن. أنيقة بزينة غير متكلفة، كانت لهجتها مميزة عن أهل المدينة. برفقتها طفل أسمر  في الرابعة من عمره. لا يمت لملامحها أبدا، وحين توقفنا فتحت الباب ببطء ثم أمسكت بالطفل  وأخرجت إحدى يديها الساحرتين، أغلقت الباب بلطف شديد.
ومشيت بضع خطوات بين الأشجار خلف الحانة ووكالة تحويل الأموال. والمحفظة في يدي.
فنحت الباب العجيب ودلفت إلى المقهى مخمورا بقوة الحنين والرغبة في الإمساك بلحظة عزلة مستعصية.
كنت منتشيا بعض الشيء كمن يقابل حبيبة بعد فراق طويل.
وضع النادل الأمازيغي كأس شراب الليمون أمامي بعد أن سلم علي وسألني بتحفظ عن غيابي كل هاته السنوات وعن الأصدقاء. وبينما أنا في ذروة العزلة والنشوة وسط الأفكار والذكريات..أحسست بيد تربت فوق كتفي..

– فين اخويا…؟؟
رفعت رأسي ببطء. وقلبي مثقل بالخيبة..
قلت له الحمد لله..وانت ؟
استرسلنا في الحديث طويلا وقادنا الحوار من موضوع لآخر بين الأخبار والأسئلة والنميمة.
طلبت له قهوة لكنه رفض..وفضل الحليب دون سكر كأنه خرج للتو من عملية جراحية..
ثم طال الحديث وبقيت الكتب والمحفظة والأوراق أمامي جريحة ومهملة.
بدأ الأشخاص يدخلون. بعضهم يطلب سجائر وقهوة وجرائد.
ثم جاء فوج الشباب العشاق ومن ثنايا الستار الملاصق للباب الخلفي رأيت عتمة المساء تنزل شيئا فشيئا إلى أن اكتست الساحة والشجيرات والمدينة برمتها بلون الليل..
عند محاولة الخروج من الباب الخلفي للمقهى، لمحت الأستاذ الأصلع القصير يخرج متمايلا من باب الحانة ثم عاد بحد لحظات، وقد أخفى ثلاث سجائر..وقف مرة أخرى وكان يتهجى بصعوبة في تذكرة قمار وربما تمتم ببضع كلمات متقطعة، خطا نحو الحانة الصغيرة ثم غاب وسط لغو السكارى وقرقعة الكؤوس و الذكريات…
كنت شاردا ولم أعد أهتم بما يقوله جليسي..فقد انطفأ حلم ذلك اليوم..وعدت إلى تأمل الساحة وهي مظلمة بالكامل وأنوار الواجهات والسيارات تضيء الطريق..وأدركت أنه علي أن أحمل أمنيتي ومحفظتي، وارحل حتى يوم آخر، في مدينة أخرى أو بلد آخر..


الكاتب : عبد اللطيف بن اموينة 

  

بتاريخ : 14/02/2025