يَمُوتُ الشَّاعِرُ وَتَحْيَا الْقَصِيدَةُ (في مديح الشاعر محمد عنيبة الحمري)

 

(1)
الموتُ في جوهره حياة أخرى يخوضها جسدُ الإنسان وروحه بعيداً عن جلبة العالَم، قريباً من متاهات اللانهائي، حيث التخوم والحدود والفواصل والأحياز تمّحي ويفتح بابُ الصمت الأبديّ، حينها يخرج الخيالُ مجرّداً من أوهام المجازات والاستعارات التي يتم بها تأثيث البياض ومن ثمّ الوجود، واللغة مفعمة بحياة جديدة، حياة الترحال في مفاوز الغموض والزمن السائل، في ظلّ هذه الحياة البعيدة عنّا اللحظة والقريبة حين نلج عوالمها ونكتشف معالمها بالحدس لا بالحسّ، نقف لنفتح نوافذ على الذين غادروا وجودنا وارتكنوا إلى عزلاتهم الضاجّة بالأرواح والأساطير الأولى للمجهول، علّنا نقبض على بعضنا من هؤلاء سفراء الأحياء في عالم الأموات، خصوصاً المنتسبين إلى عائلة الخيال واللغة وقد تركوا أثراً ما نستضيء به هذه العتمات المحيطة بالكائن والكون.
العتماتُ التي تؤرق الألباب وتأسر الأفئدة وتحفّز على التّرحال في مهاويها السحيقة، تكون اللغة الجسر الذي به نعبر إلى الضفة الأخرى من الذاكرة، لنقول الذات والعالم بصيغة المجاز ونطرق أبواب المتون والمظان نستقصي الجليل والبهي من الكلام سواء كان كتابةً/ رسماً أو نشيداً معزوفاً على نايات الشجى والنّوى في زمن معاصرٍ غدا أضيق من خرم إبرة.بل نستطيع التأكيد على أن خرم الإبرة أوسع من رحابة الأنقاض و الهاوية.
الهاوية الكتابُ المفتوح على الكارثة والأهوال، على أنفاق ممتدة في غلس المحطات وكبوة العربات أمام سطوة الخراب. وأمام شراسة الموت حين يأخذ منا عزيزاً في الاستعارة/ الخيال تتحوّل الذاكرة إلى سِفْرٍ قد نقرأه بعنفوان الألم أو بوهج النداءات القادمة من قصيّ الفلوات حيث «الحب مهزلة القرون» و»الشوق للإبحار» و» مرثية المصلوبين» ثم «داء الأحبة» وآخرا وليس أخيراً رعشات المكان» لتضيء الليل الساطع في ألم الرحيل وأمل القراءة، هذه الأخيرة نعتقد أنها البوصلة التي تقودنا إلى الجوهر و العميق ثم الأصيل في حياة الشاعر محمد عنيبة الحمري.

(2)
محمد عنيبة الحمري الشاعر الكافر بالريادة الشعرية، المؤمن بالشعر في شعريته وشاعريته، في قدرته على السخرية من العالَم بألق العبارة ودهشة المعنى، ينتمي جيليّاً إلى السبعينيات من القرن العشرين إلى عصابة من الشعراء كالأحمدين الجوماري وصبري و محمد علي الهواري وعبد الله راجع ومحمد بنيس الذين منحوا القصيدة المغربية نفساً إبداعيّاً حداثيّا مغلّفا بالسرديات الكبرى المهيمنة السياسية والثقافية والاجتماعية آنذاك، فجاءت قصائدهم مضمّخة بالدّماء والأحلام والخيبات في سياق العنف والعنف المضاد. غير أنهم أحدثوا ثقباً وشقوقاً في جدار الشعر المغربي المرابط في قلعة العمود الشعري. لتخرج القصيدة المغربية من ضيق الأشكال إلى رحابة التجربة بأثرها الجماليّ والفنيّ. وكان صوت الشاعر عنيبة الحمري له الحضور المتميّز الذي يليق بالقصيدة المتخفّفة من الطابع الرومانسي ولعلّ ديوان « الحب مهزلة القرون» تمثيل لتخطي وتجاوز الشاعر المغربي الحيّز الشكلي والانفتاح على أفق شعري آخر، إنّه صرخة في وجه الخيال العاطفي الوجداني، في زمن مغربي موشوم بالندوب وملتهب بالجمر والرصاص يستدعي انخراط المثقف في قضايا المجتمع، والانتساب إلى السؤال الثقافي التحديثي العقلاني، حيث كانت الثقافة في تعالق مع الممارسة السياسية التي كانت تعرف مدّاً للتيارات من أجل مغرب الاختلاف في الرأي والائتلاف في بناء الوطن ديموقراطيّاً بملامح حداثية. وأعتقد أن الشاعر عنيبة الحمري رغم هيمنة السرديات الكبرى فقد ظلّ مخلصاً لتجربته الشعرية المفتوحة على الأشكال الشعرية العمودية والتفعيلية تساوقاً مع السياق الثقافي العام.

(3)
يجبُ الإشارة هنا إلى أنّ محمد عنيبة الحمري من التجارب الشعرية المغربية، التي قدّت تجربتها من رؤية عميقة للذات والعالَم؛ أساسها الجوهري البحث عن نصٍّ شعريٍّ خارج منظومة النسق العمودي، مرتضياً أفقاً في الكتابة الشعرية يؤسس لخطاب شعريّ بجمالياتٍ واختراقاتٍ أسلوبية عمادها الرموز والعلامات كوسائل تعبيرية تحفر في المطمور والمنسي في الموجود والوجود؛ مقترحاً طرائق في القول تحتاج إلى آليات قرائية وتأويلية يقول:
« حين تسبح في جسدي حُرَقي، أتفيّأ ظلّ/ الكآبة حبْراً يفيض على ورقي، وأسيحُ/ كأيّ مسيح تُكلّله ومضةٌ قد تكون / نهايتها في عشاه …»
عالمٌ حابلٌ بأنساق معرفية ودينية تخيّب أفق الانتظار وتحدث الشقوق والفجوات داخل النصّ، مما يجعله حمّال احتمالات دلالية لانهائية، فالمكابدات تجسّدها ألفاظ تتشكّل وفق بنية تخترق مألوف القول وتبني نسقاً جديداً يصوغ تجربة الكتابة بالسباحة أي الغوص والحفر عميقاً في كوامن الذات (جسدي) والشعور بالاغتراب ( المسيح والعشاء الأخير) مما يفضي إلى تبئير النار/ كمعادل موضوعي لإضاءة عتمة العالم، والكشف عمّا يعتور الذات من اغترابٍ روحيٍّ ، فالحرقة والضّياع ما هما إلا تجلٍ من تجليات الغربة التي تجابهها بحثاً عن الكينونة المفتقدة. والجميل في هذا الملفوظ الشعري يسمح للنسق الديني أن يتخلل مسام النصّ ويظهر من جديد في حُلّة إبداعية، استطاع الشاعر من بث الحياة في قصة عيسى عليه السلام، وهنا تتماهى محنة الشاعر مع الكتابة المضيئة للدياجير الباطنية والكونية مع محنة النبي عيسى وهو يواجه النهاية المحتومة، فنعثر على القصيدة تتخفف من الثقل الغنائي؛ ولنتأمّل هذه الدوال :
«سيبوح الذي بانكسار الظّمأ وَلِهٌ: إنّك الآن لن تتهجى خطاه/ ترتدي حرقة الذوبان على شفَق، هل/ بوسعك أن ترتوي لَهَباً كي تُنير مساء الجهات/ إلى لحظات التّمام».
فالدينامية التّخيّلية والبحث عن الممكن انطلاقا من كائن يتمثل في العذابات الذاتية إلى ممكن محتمل يتجلى في عالم النور، حيث تتجرّد هذه الذات من كلّ ما يعيقها لمعانقة البهاء الوجودي.

(4)
إنّ النصّ يتحوّل إلى جثةٍ هامدةٍ عندما يتمّ وضعه في رفّ النّسيان دون مشاكسته ومراودته، والعمل على تشريح جسده بآلية قرائية تروم الكشف عن مدخراته الفنية والجمالية، ففي غياب البعد الجمالي تنتفي على النصّ صفة الحياة، بل هو فقط رصّ للكلمات وتنضيد للجمل وتشكيل لخطاب فاقدٍ لروح الجمال، لهذا تبقى القراءة المثمرة تلك التي تقلب أراضيه تنقيباً عمّا يخاطب العاطفة والعقل بطرائق تعبيرية تثير الأهواء والرغبات وتستفزّ العقل لخوض غمار التأمّل والتدبّر في مداخل النص ومخارجه وفق زاوية نظر قمينة بتسليط الضياء على عتماته التيماتية والدلالية. والنصّ الشعريّ ليس مجرّد قالب انعكاسي، يعكس الواقع كما هو، وإنّما تشكيل واقع آخر متخيّل ممزوج بتراب الأرض وغبارها ومساربها ومسالكها، وسراديبها المظلمة وأفقها اللانهائي، على هذه الصورة يكون النص الشعريّ عالماً منسوجاً بلغة ثانية، لغة المجاز والاستعارات المنتقاة من بلاغة الواقع، وأعتقد أن الشاعر محمد عنيبة الحمري تمكّن من خلق كينونة تفرّده واختلافه مع أترابه شعراء السبعينيات، كما يختلفون هم بشعرياتهم التي بوّأتهم المكانة التي تليق بتجاربهم، ومن تجليات هذا التفرد ما نستشفه من مداليل شعرية تثبت هذه الحقيقة، ذلك أن الشاعر كان مهووساً بالاحتفاء- بمنطق وجودي- بالنفي الداخلي والسياحة في متاهات الذات وارتجاجاتها المضنية حيث الاغتراب -كما أشرنا في السابق- تيمة أساس في تجربته، مما يمنحها القول إن عنيبة الحمري يواري خلف ابتسامة المخاتلة القلق والتوتر وحرقة السؤال يقول:
“ تعبَت في الفيافي مداركنا، وغدت حرقة / الماء قلبَ دواخلنا، فانكوى عطشاً قلبُ هذا العليل/ تتراءى لك الخطوات ولا تدري أنّ الفلاة/ تعيشُ على سَنَن المحو في كلّ حين/ فالتمس مهرباً، فالرّمال على مهلٍ/ تفسحُ العُمق، تسحبُ كلّ دخيل/ كيف ترجو التماع النّجوم وبوصلة/ القوم يحكمها المستحيل”
فالشاعر يفكّك العالَم والأشياء والأوضاع ويعيد تركيبها على نحو يحقق المخالفة، فالصور الشعرية تتوالى سيلاً لغوياً خارج المألوف ( تعب المدارك/ حرقة الماء/ عيش الفلاة على قوانين المحو/ الرمال نفسح العمق / القوم يحكمه المستحيل) استعارات تصورية جوهرها التجسيد تكشف الظمأ الوجودي وتعمّق الاغتراب الذاتي تعبير عن مكابداته.

(5)
“سمّ هذا البَيَاضَ رثاءً”
بهذا فالعبارة سميّةُ المكابدة، حيث الشعر، في محتده وعُمقه، يتحوّل إلى كوْنٍ لغويٍّ جنائزي، يقدّم الذات في أسمى مكابداتها؛ واحتراقاتها، واغتراباتها ومنافيها الظاهرة والباطنة، والعالَمَ الموشّح بالشجون والعتمات والمتاهات والفلوات المثيرة للإحساس بالضّياع تجسيدٌ واضحٌ على أن محمد عنيبة الحمري ينطلق من وعيّ شعريّ يقول الأشياء والكائنات والوجود في صيغٍ لغوية تتمرّد على معمارية اللغة المعيارية لتشييد لغة عليا بتعبير جان كوهين تكون لها القدرة على الاختراق والانبثاق من الدّاخل في اتجاه الخارج المتمثل في العالمِ الملموس بينما العوالم المعنوية تستدعي عبارة الحدوس والإشراقات والإغراق في الغموض الواضح والوضوح الغامض، وتلك مزية اللغة الشعرية عند الشاعر، ما يميّزها التقتير في اللفظ والتوسيع في المعنى، وهذا ما حقق له كينونة التفرّد، إذ نجده يستثمر رؤياه الشعرية لاقتناص البهي والجليل في الأفق البعيد، ناسجاً أكواناً جمالية مفتوحة على أبعادٍ دلالية لانهائية يقول:
«فكل المسالك/ في رحلة العمر لا تنتهي بانتفاء الشّجن/ واستعن بالحروف ضمادا يؤجّج ذاك الحريق» فالشعر رحلةٌ أبدية في «نشيد المتاهة» و”»طريق المتاهة» و»متاهة حب» ف» المتاه عصيّ» معجمٌ سَفريّ يعرّي محنة الذات الملتهبة بأسئلتها الوجودية؛ ونزيفها النهريّ وعشقها الظامئ في جسد خربٍ يتشظى حنينا وشجنا وارتياباً حيث المتاهات تفضي إلى احتمالات مضمّخة بالمجازات والاستعارات التي تحتفي بجرح المعنى وألم الدلالة يقول: «تسبحُ الآن في سموات الفضاء مجرّات/ كونٍ تناءى فلا تُدرك/ العين في لحظة منتهاه/ يا رفيق المدى، ما لوقتك لا يستبين/ دقائقه، والزّمان عسيرٌ فما/ ينطوي في سماه انشراح/ ما لبعدك يحزنني، ولقربك/ يبعدني فأحسّ بأنّ المسافة متعبة/ والغمامة منتجع السّراب/ يرحل العاشقون إلى وهمهم، ويظلّ/ البكاء على الدّمن الخاليات سبيلا/ إلى عطش مُستباح».
إنّه كونٌ لغويٌّ مليء بالحدوس الشعرية التي تجمع بين الأزمنة والأمكنة والعوالم الأخرى في تركيبة مشهدية ترسم ملامح عالمٍ مازال في حاجة إلى الإضاءة مادام «يرتدي الغسق» بتلاوينه المختلفة، ليبقى الوقوف على الطلل مذمّة بالنسبة للشاعر محمد عنيبة الحمري لأنه يعتبر ذلك تمهيراً على العطش المستباح كناية على اللاجدوى منه، مما يبرز أن الحداثة الشعرية تحديث وتجديدٌ يجعل الكتابة الشعرية لا تتجه صوب الواقع، ولكن تخلق معماريتها على أساس حسيّ وحدسيّ لابتكار فنيتها وجمالياتها.

(6)
القارئ الجيّد للتجربة الشعرية للشاعر محمد عنيبة الحمري يدرك جدارتها في الشعرية المغربية المعاصرة وقيمتها الإبداعية، فبالرغم من أن شعر السبعينيات يتّسم بالانغماس في القضايا الكبرى والاكتواء بأسئلة الواقع وتحولاته، فإن الشاعر عنيبة الحمريّ ظلّ ملتصقاً بالهموم الذاتية ليس في طابعها السطحي، بل في عمقها المخفي والذي يتطلب الرحيل في عوالم الروح والتباساتها وانفعالاتها، لاستكناه مجهولاتها وأسرارها الكامنة في الحياة والموت والرغبة في تحقيق الديمومة الأبدية عن طريق الإبداع. ويمكن اعتبار تجربته قلباً للمعادلة القائمة آنذاك؛ إذ عمد إلى الإصغاء إلى سريان نارِ التوترات الباطنية في ارتباطها بمنعطفات العالَم، الأمر الذي دمغ خطابها الشعري بجماليات القول وإيقاعية نابعة من بنية النص وخافقة من وجدان الشاعر ليس بالدلالة الرومانسية، ولكن بالمعنى الرؤياوي الحدسي.
(7)
يمكن القول إن الكتابة الشعرية عند الشاعر تكتسب وجاهتها الإبداعية من طبيعة البناء والمعنى، إذ لم يخضع إلى القواعد المألوف؛ بقدر ما سعى إلى تشكيل عوالم شعرية متخيّلة تؤسس لخطاب شعريّ حداثيّ قوامه بلاغة التقتير الشعري والتوسيع الدلالي، مما منح للشعر المغربي المعاصر طاقة جديدة لاجتراح ممكنات شعرية متحرّرة من صدى الواقع ومتخلّقة من حدس الرؤى والذات في تفاعلٍ مع الكائنات والكون.

حاشيةٌ أُخْرَى
( سمّ المدى سؤال الأبد
واحترق بماء المعنى
فالنّهر نارٌ
ونون النّعيم تهوى على ناصية
البدَد
واشعل فنار الرؤى لتضيء
عتمة هذا البلد…)


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 03/01/2025