140 مليار درهم للصحة والتعليم… قفزة مالية غير مسبوقة تضع الحكومة أمام اختبار النجاعة ومخاطر الصفقات المباشرة

حمل البلاغ الصادر عن الديوان الملكي عقب الاجتماع الأخير للمجلس الوزاري، المنعقد تحت رئاسة جلالة الملك محمد السادس أول أمس 19 أكتوبر 2025، إشارات قوية إلى أن الحكومة أصبحت تجد نفسها في آخر سنة من ولايتها التي أهدرت فيها فرص إصلاح عديدة، مضطرة هذه المرة إلى إحداث نقلة نوعية في ميزانية القطاعات الاجتماعية، من خلال تخصيص غلاف مالي إجمالي يقدر بـ140 مليار درهم لقطاعي الصحة والتعليم مجتمعين، وإحداث أكثر من 27 ألف منصب مالي جديد لفائدتهما. وهي أرقام غير مسبوقة في تاريخ الميزانيات الأخيرة، وتشكل زيادة بنحو 22 مليار درهم مقارنة بما خصص لهما في قانون المالية لسنة 2025. حيث لم يكن هذا الرقم يتعدى 9100 منصب موزعة بين 6500 منصب لقطاع الصحة و2600منصب لقطاع التعليم.
هذا الارتفاع اللافت يعكس، من حيث المبدأ، وعيا متزايدا بأن الرهان الحقيقي على التنمية يمر عبر إصلاح منظومتي التعليم والصحة، اللتين ظلتا لعقود عنوانا للأعطاب البنيوية التي تعيق صعود المغرب إلى مصاف الدول الصاعدة. لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل يكفي رفع الأرقام لتدارك الخصاص المتراكم؟ وهل تملك الحكومة القدرة التدبيرية والمؤسساتية لتحويل هذه الموارد المالية الضخمة إلى أثر ملموس في حياة المواطنين؟
غير أن هذه القفزة المالية تطرح بدورها إشكالية النجاعة، لأن التجربة السابقة أظهرت أن زيادة الاعتمادات لا تؤدي بالضرورة إلى تحسين الأداء. فالنظام التعليمي ما زال يعاني من ضعف الكفايات وتردي البنيات، رغم أن ميزانيته تجاوزت في 2025 عتبة 80 مليار درهم. أما المنظومة الصحية، فرغم الدعم المتواصل منذ إطلاق ورش الحماية الاجتماعية، فإنها لم تتجاوز بعد مرحلة الطوارئ الهيكلية، في ظل خصاص حاد في الموارد البشرية والبنيات الاستشفائية، وتفاوتات صارخة بين الجهات.
ولعل التحدي الأكبر أمام مشروع مالية 2026 هو تحقيق التحول النوعي في تدبير هذه الميزانيات، عبر ربط الإنفاق بالنتائج، وتعزيز الرقابة على توجيه الموارد نحو الأولويات الفعلية: تعميم التعليم الأولي، تحسين جودة التكوين، تأهيل المستشفيات الإقليمية، وتحسين ظروف عمل الأطر التربوية والطبية. فالمغاربة سئموا من لغة الأرقام المتضخمة التي لا تنعكس على جودة الخدمات، ويترقبون إصلاحا ملموسا يلامس حياتهم اليومية لا مجرد نوايا حكومية على الورق.
ومن بين النقاط الحساسة التي تستحق التوقف عندها في السياق الحالي، تلك المتعلقة بترخيص رئيس الحكومة للجوء إلى الصفقات التفاوضية المباشرة في قطاع الصحة، بذريعة تسريع تنزيل الإصلاح. صحيح أن تسريع وتيرة الإصلاح يقتضي تجاوز تعقيدات المساطر الإدارية، لكن فتح الباب أمام الصفقات التفاوضية دون ضوابط صارمة قد يتحول إلى نافذة واسعة للريع وتقاسم الوزيعة بين المقربين من دوائر القرار، كما حدث خلال فترة الجائحة عندما تحولت بعض الصفقات الاستثنائية إلى بؤر للشكوك حول تضارب المصالح واستغلال النفوذ.
وذا كانت الحكومة تراهن على الوقت، فإن الرأي العام يراهن على الشفافية، التي تعد الشرط الجوهري لاستعادة الثقة. وبالتالي فإن اعتماد هذا النمط من الصفقات يقتضي أن يرافقه التزام صارم بنشر كل التفاصيل المتعلقة بالمقاولات المستفيدة، ومعايير الاختيار، وطبيعة الخدمات المقدمة، مع تمكين أجهزة المراقبة المالية من صلاحيات التتبع في الزمن الفعلي. خصوصا وأن إصلاح قطاع الصحة بالذات لا يمكن أن يتم بأدوات تشوبها الشبهة، لأن المواطن لن يصدق أي خطاب عن النجاعة إذا شعر أن المال العام يوزع خارج منطق التنافسية والنزاهة.
كما أن اللجوء المتكرر إلى الصفقات التفاوضية، حتى لو كان بدافع السرعة، يعكس في العمق ضعف الحكامة التدبيرية وعجز الإدارة عن تطوير آليات التباري النزيه والفعال. ومن ثمة، فإن المعركة الحقيقية ليست ضد المساطر، بل ضد ثقافة الزبونية والاختيار المسبق للمستفيدين قبل فتح المنافسة. ذلك أن بناء دولة اجتماعية حديثة يمر حتما عبر تخليق تدبير المال العام، لا عبر تطويع القوانين لتبرير الاستثناء.
ومن الجوانب اللافتة في بلاغ الديوان الملكي إدراج مشاريع قوانين تنظيمية جديدة تتعلق بمجلس النواب والأحزاب السياسية، تهدف إلى تخليق الحياة السياسية وضمان نزاهة الاستحقاقات المقبلة. وهي خطوة بالغة الدلالة، لأن إصلاح المالية العامة لا ينفصل عن إصلاح الممارسة السياسية التي تنتج السياسات العمومية. ويسعى القانون التنظيمي الجديد لمجلس النواب إلى تحصين العملية الانتخابية من الفساد، من خلال منع المترشحين المحكوم عليهم في قضايا تمس النزاهة الانتخابية، وتشديد العقوبات على المتورطين في أي إخلال بسلامة العمليات الانتخابية. كما يقترح تحفيز الشباب الذين تقل أعمارهم عن 35 سنة على خوض غمار السياسة عبر منح دعم مالي يغطي 75% من نفقات الحملة الانتخابية، وتخصيص الدوائر الجهوية حصريا للنساء.


الكاتب : عماد عادل

  

بتاريخ : 21/10/2025