2023: عام السقوط الأخلاقي للغرب

 

«إذا كانت الحرب تقوم على قضايا معينة، فيجب أن تكون هذه القضايا بالضرورة قضايا عادلة. فلا حرب عادلة من دون قضية عادلة» ـ ديفيد فيشر ـ

1 ـ كسٌر العام الميلادي الجاري

الذي ودجناه قبل يومين ، جدل الاحتيال الأخلاقي والسياسي، الذي يبتدعه الغرب، وينافح عنه بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة. وصار الاختزال النمطي للتدجين بالأساليب الادعائية، مجرد قشرة رقيقة، تجتزؤها فراغات قيمية وإنسانية، سرعان ما ترعوي وسط ركام فظيع من التخرصات التاريخية المليئة بالندوب والآلام والقذارات الممارسة خلال أحقاب وعقود.
فالغرب الديمقراطي، المتفاخر بإنجازات الحداثة والعولمة والتكنولوجيات العالية والحروب السيبرانية المتسارعة، المجاهر بسمو النظام العالمي لحقوق الإنسان والحيوان، والمناصر لقضايا العدالة والسلام والمساواة، هو نفسه، المستعمر القديم، المهيمن على مقدرات الشعوب المستضعفة، المستنزف لثروات بلدانها الثالثية، المستبد بالحكم الأممي المصيخ إلى قالب الفيتو الظالم.. لا ينفعل مع نهضته الفلسفية والعمرانية، في أقرب تصوراتها ومرجعياتها. فقد افتقد روح الأخلاق الأرسطية المنزوعة، المرتبطة بالسعادة الإنسانية، غاية الوجود والعقل والتسامح. بل إنه هدم قيم كانط المرتكزة على الواجب الأخلاقي والمثالية الإنسية المتبعة للعقل والوجدان.
خلال عقدين من الزمن، ارتكزت بروبجاندا الغرب الأخلاقي، على الترويج الإعلامي للأخطار المحدقة بالعالم، على سبيل مواجهة التطرف الديني، ومجابهة التيارات الإسلامية المتحالفة مع المشاريع السياسية المشبوهة، وبرامجها لتزييف حقيقة «الإسلام» و»المسلمين»، فكانت الأحداث الكبرى التي اهتز لها ضمير العالم، هجمات 11 شتنبر 2001 وما أعقبها من الحروب الإبادية والتخريبية، في العراق وأفعانستان. ثم بزوغ نظرية الربيع العربي عام 2011، التي صارت وبالا وشنارا مأفونا على البلدان العربية، في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا.
صار لزاما علينا أن نعيد تقييم سؤال الغرب والإسلام، أو في الحد الأدنى، إثارة الاستفهام السيروري المتصل ب: «ماذا يريد منا الغرب؟ أو لماذا يكرهوننا؟»، والذي يؤسس في العمق، لمحاولة استجلاء عناصر التشكيل الحضاري الإسلامي المتجاور مع التشكيل الحضاري الغربي (المسيحي)، وعلاقة ذلك بالتحريض الصهيوني واندغامه في السياسة والاقتصاد الموجهين؟.
هل ثمة ما يحيل إلى هذا التشاكل بين عقيدتين أو منظومتين أخلاقيتين متباعدتين، تؤثثان حقولا تاريخية ضاربة في القدم، من البغضاء والتنافر والعداء والقطائع؟
لقد أفرزت المساحة الثقافية والهوياتية للأحداث المترابطة، في سياقاتها المتشعبة، نوعا من التصادم في إنتاج جبال من المشاكل وما تفرزه من عراقيل وإكراهات، لم تكن لتحجب مستوى القلق المرتفع بين الطرفين، وتجاذبات المصالح السياسية بينهما، لدرجة الإسفاف وضعف القابلية، وتمكين توجيه طفرة التبادل وتصحيح المسار وتنظيم العقد السياسي وتخفيف حدة التوتر وتقبل وجهات النظر وترسيخ مبادئ السلوك الحضاري والتفاهم والاحترام المتبادل، ما أضحى يغلب على واقع التباس غامض ومناكف للواقعية والنظرية الأممية القائمة على «السيادة» و»الهوية الوطنية» و»الانتصار للقيم الكونية»، من جهة كون الغرب، يزجي بفوقيته وأنانيته وانتقائيته واستغلاله، بل وانتقامه وغصبه للحقوق؟.
لم تكن سنة 2023، سوى نافذة لفرز هذا التوجه. وفيها ظهر للعيان، كيف يمكن للغرب أن يعود لسابق عهده، وأن ينقاد من قبل منظومته لتأكيد تسامي «الاستراتيجية الاستعمارية»، و»الخيار الحربي» على كل المفارقات السلوكية والأخلاقية المغايرة.
وعلى الرغم من أن»التاريخ يعيد نفسه»، كما يقال، فإن الحروب اللاأخلاقية للمثالية الغربية «الأمريكية»، منذ غزو خليج الخنازير عام 1961، وغرينادا 1983، وبنما 1989، وحرب الخليج الثانية 1990، وحرب العراق 2003، وقبل ذلك كله حرب الفلبين ومورو 1899/ 1913، وفيتنام 1955/1975، ثم أفغانستان 2001/2021، أزاحت القناع عن الوجه الحقيقي لتمثال الحرية المصطنع، وأعادت صياغة مفاهيم «الغرب الحداثي الحقوقي» ، وأبصرت الفوارق السياسية والمجالية والثقافية للخلفية الإيديولوجية والبراغماتية التي يرتديها مديرو العمليات في الغرف الموجهة، بلبوسات متعددة، منها ما هو تنموي، ونسائي وبيئي ومالي وشبابي ..إلخ.
لقد تحدث بعض أبناء هذا الغرب، في الكثير من المحطات النقدية المتفردة، عن أزمة الغرب الأخلاقية، وانتقالها إلى «الهمجية» و»الإسراف في العداوة»، والتأليب الميؤوس. فكان من بعض هذه الأمثلة، ما ينصف ويرد الصاع، لدرجة أن أحدهم وهو عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، استعمل أداة «أزمة الغرب» لنقد الحداثة وما تشكله من تناقضات وتأثيراتسلبية على الفكر والحياة، ليستقوي بعناصر أسئلته الحارة والمؤلمة، كسؤاله عن:»هل نسير نحو الهاوية؟» و»الأزمة التي تتخبط فيها حضارتنا» و»عنف العالم» و»الأزمة الكوكبية للحضارة الراهنة» و»دوامة الحاضر» و»أزمة الحداثة»؟.»
لكن قسوة الغرب ونكوصيته، فاقت كل تصور ونظر، قبل أن تغادرنا سنة 2023 الدموية والعصية على التأويل. فقد أعمت سلطة الغرب أخلاقية المنظمة الأممية، وعرت كل ما تبقى من أقنعته الخفاشية، بعد أن استوعبت قناعاته المشؤومة، الفاشستية الصهيونية في أيشع صورها، حيث انقضت الأخيرة بحلف شيطاني مع «الغرب» بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لإبادة غزة المحاصرة المحتلة، وتدميرها وتهجير ما تبقى من ساكنتها …
تكشفت نوايا الغرب بشكل لا يدعو للشك، بعد أن فشلت المنظومة الدولية، حتى في أبسط قراراتها لوقف إطلاق النار وإبادة الشعب الغزاوي وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع، وإيقاف تدمير المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والخدمات الإنسانية …
تأكد كذب الغرب واحتياله على النظام العالمي، وزيف ادعاءاته بالانتماء لقيم الحداثة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر و….
لقد جأر الغرب بما لم يكسبه أملا في إعادة تصحيح صورت، التي أدغمت بين الاحتلال والقتل والعدوان، إلى كسر الشأفة وإبطال القوة والجبر على الخنوع والخضوع. فصار هذا الغرب، شوكة في حلق، وطغمة في نحر، ونصبا في قعر.
لقد باتت «سياسات الغرب غير مستقرة، وهي إلى ذلك مترددة ومتأرجحة في تعبير بليغ عن الأزمة البنيوية التي تعتري الغرب»، كما يذهب إلى ذلك حسن أوريد في «أفول الغرب»، لكن هذه السياسة لم تكن محجوبة أو غائبة، عن أنظار أصحاب التفكير والاجتماع، بل إنها تتمترس في سياق تأويل براديجم التغيير في صلب مجتمعاتها ومكوناتها الثقافية، التي تشكل إحدى أهم خصوصيات ديمقراطيتها النخبوية، وهو ما يظهر جليا في رفض الشارع الغربي، بشكل عام، لسياسات إداراته وتناقضاتها الصارخة. ولنا في مثال غزة أبلغ نموذج لرفض الاحتلال والعدوان والإبادة والظلم.

2 ـ انفضاح
العقل الغربي

«إذا ولد الرجال أحرارًا، فلن يشكلوا أي تصور للخير والشر، طالما بقوا أحرارًا» ـ باروخسبينوزا ـ

في الفنون، كما في الثقافة والسياسة، يمكن للاضطهاد أن يجتاز حدود النقد والتأويل، ويصبح الصديق عدوا، والمؤنس بديلا عن الشيطان الكامن في الظل. هكذا، تتسارع أحداث النظرية الأمريكوصهونية (معي أو ضدي)، تماشيا مع سياسة الغرب الآن، تجاه مذابح غزة وإبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره قسريا تجاه الموت الزؤام، حيث يتحول منطق الديمقراطية، إلى القيم المعكوسة، وتتداعى بإزاء ذلك، كل القياسات الإنسانية والكونية، في الحرية والمساواة والعيش الكريم.. ومقاومة الاحتلال؟.
انضم الفنان والناشط الصيني المعارض آيويوي، المعروف بدعمه للقضية الفلسطينية، إلى قافلة المنبوذين في الفضاء الأوربي، مباشرة بعد الإفصاح عن رأيه في الحرب الراهنة على قطاع غزة، حيث تم إلغاء معرضه بليسون في العاصمة البريطانية لندن.
وعلى الرغم من خفة التعليق على الأحداث العدوانية المذكورة، واشتمال تصويره للصراع، كونه يجسد (شعبين وأرضين)، دون الإشارة حتى إلى فوارق الوضعيات وظروف الاحتلال واختلالات السياسة في النمطين المتناقضين، متمثلا بالقول، أنه «لا يوجد مكان للنقاش الذي يمكن وصفه بأنه معاد للسامية أو معادٍ للإسلام»، ومتجاوزا في عمق الحديث عن المآلات، أسباب وخلفيات العنف الدموي ومثاراته في الجيوسياسية الغربية والصهيونية، مشخصا بعض هذا الانزلاق، بالذهاب إلى أن «الشعور بالذنب تجاه اضطهاد الشعب اليهودي» قد انتقل إلى العالم العربي. مع أن الشعور باليأس تجاه ذلك، مرده الإذعان والتصديق القطعي للسردية التاريخية الغير بريئة، والمتماشية مع «الأسطورة»، و»القلق الوجودي النفسي».
يخالف آيويوي، عبث الحرب الغربية الصهيونية على غزة، ويكبح أساساتها بقوة القيمة الحقوقية للعقل، وليس بالتدليل على حجم الخسارة، في مرماها السياسي الضيق. ويوجه فوق كل ذلك، سهام الانتقاد للبروبجندا المهولة، التي أطلقتها الآلة المدسوسة، والمدعومة بالمال والعتاد والثقافة .. ويقول، إن «الجالية اليهودية لها تأثير قوي في وسائل الإعلام والمالية والثقافية في الولايات المتحدة، وإن الدعم العسكري السنوي الذي تقدمه أمريكا لإسرائيل بقيمة 3 مليارات دولار (2.45 مليار جنيه استرليني) يعني أن البلدين لديهما مصير مشترك».
ويحتمي المعارض الصيني المنتصر للحقوق الفلسطينية المشروعة، بحياديته الطقسية المكسوة بروح الفنان وصفاء السجية، مبادرا إلى تحقيق نوع من الإنصاف والعدالة، على نحو من الموضوعية،»دون إصدار أحكام أخلاقية أو اتهامات أو تقييم للأفعال البشرية»، لكنه، لم ينج من الاستخفاف والاقصاء ؟.
هو يعلم ذلك بالتأكيد، ولا يحتمل أي فرضية إيجابية تجاه رأيه، لدرجة أنه فضل أن يقول الحقيقة تعبيرا مفصحا، ودون تردد :»عند مناقشة الصواب أو الخطأ، لا بد أنني مخطئ. لقد اعتبرت دائمًا حرية التعبير قيمة تستحق النضال من أجلها والاهتمام بها، حتى لو جلبت لي مصائب مختلفة»، مستطردا «يجب بشكل خاص تشجيع الآراء غير الصحيحة. إذا كانت حرية التعبير مقتصرة على نفس النوع من الآراء، فإنها تصبح سجناً للتعبير. حرية التعبير تتعلق بأصوات مختلفة، أصوات مختلفة عن أصواتنا».
لا مناص أن إلغاء ثلاثة معارض أخرى للفنان الصيني آيويوي، في معرض ليسون في نيويورك وجاليري ماكس هيتزلر في باريس وبرلين، سيكون له وقع كبير على صورة الغرب المقنعة، حيث تنبت الديمقراطية في حقول الادعاء والتوجيه الإيديولوجي وقهر الإنسان، وهو ما ترجمه الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، في أحد حواراته الأخيرة، حيث قال «الأمر ربما لا يكون سهلا، «ففي الواقع ليس الجميع ضد الحرب، وهناك أوقات يجرفنا فيها التيار، ويطلب منا أن نختار جانبا ونتخذ موقفا، أنا أتخذ موقفا من قلق الإنسان»، مؤكدا في السياق ذاته، أنه «لم تتعرض الإنسانية قط لمثل هذا القدر من المخاطر، لأنه إذا انتشرت الحرب على نطاق واسع واستخدمت الأسلحة النووية وغيرها، فإننا لا نعرف إلى أين نتجه، لأي تراجع، أو لأي انحطاط».
أليست الكراهية، مثارا ملحا لفوضى العالم الآن وسط حشود متنطعة من البشرية، تريد لهذه الحربية الشنيعة أن تكون مستقبلا لفكرة الاستحواذ القاسي، تحت رحمة الخوف والإمعان في دحض قيم التسامح والتشارك والإبداع؟؟.


الكاتب : د مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

  

بتاريخ : 03/01/2024