في مدارات تخصيب العملية التاريخية، قطعت الإستوغرافيا الغربية مسارات طويلة من المواجهة والمقاومة، ومرَّت من لحظات اهتزاز عنيفة استقر بها المطاف إلى اعتبار العَملية التاريخية عملية مركبة تتضمن لحظات الانقطاعات، وأيضا لحظات الاستمراريات، في ما يتصل برؤية الزمن والمجال والذهنيات…لكن، كيف يتأتى للعملية التاريخية أن تستعيد محتوى الماضي؟ كيف تجعل من الماضي حاضرًا متجددا؟ كيف تتوافق، منهجيا، على جعل الكتابة التاريخية عملية بناء وتشييد تحتي مُتدرج يصل بنا نحو البناء الفوقي وبناء المعنى؟ كيف تُصبح الذاكرة حاضر الماضي، والرؤية حاضر الحاضر، والترقب حاضر المستقبل؟
في السياق العربي، حيث المسارات التاريخية مُلتبسة حد التناقض، يتسربل الراهن بتساؤلات جد حارقة ومسمومة، وتبدو داخله الأسئلة الوجودية هُلامية، بلا معنى، وبلا أفق، حتى تتأهل لاستيعاب تواثبات الزمن المعيش من جهة، وتواكب تذبذبات اليومي الغارق في التركيب والترميز من جهة ثانية…
في هذا المستوى، إلى أي حد يُمكننا أن نساير مؤرخ «ثورة الياسمين» التونسية فتحي بنسلامة في قوله أن حاضر العالم الإسلامي لم يُطرح بعد بِبُعد زمني رصين، وبِغطاء ابستمولوجي عميق، ما يُفقد هذا الحاضر من معناه، ومن وجوديته، ويجعله محكوما بتصور اسكاتولوجي يمتح من خطاب النهايات، بشكل يُدخل الفرد والجماعات الإنسانية في دائرة الاحتماء بالماضي، وأي ماضٍ؟ «الماضي الجميل والمُتخيل والمُستعاد، الماضي الافتراضي وغير الواقعي…».
في الواقع، هناك فصل إبستيمي بين الماضي والتاريخ. روح هذه الفكرة نجدها عند جيرارد نوراييل مؤرخ مدرسة الحوليات.
وجب أن نُقر بأن الماضي ليس هو التاريخ، لأن الماضي هو عتبة فهم الحاضر والمستقبل، لكنه ليس هو التاريخ بالضرورة، مادام يتميز بنظرة مخصوصة قابلة للتبرير والشرعنة، ويُشيد انطلاقا من رواية استحكمت على روايات أخرى ضمن سيرورة معينة من الإخضاع والتحكم.
يفرض علينا الفصل كمشتغلين على التاريخ والعلوم الإنسانية أن نُعيد صياغة مفهوم الهوية بالمدلول التاريخي، وأن نُعيد حكي سردية التاريخ، بما هي سردية متجددة ومنفتحة، قابلة للتأويل إما قبولا أو دحضا، أوَ لَم يقل الشاعر الفلسطيني محمود درويش: «…من لا يملك الحكاية لا يملك أرض الحكاية…».
حقيقة، التاريخ والماضي ليسا شيئا واحدا، هما موضوعان مختلفان، الماضي وُجد ذات مرة، لكنه مضى إلى الأبد، ولا يتأتى استرداده أو حتى استعادته، بينما التاريخ هو وَصف لهذا الماضي وتقديم له، لكنه ليس في الأساس هو الماضي.
يشهد الحاضر العربي على انبعاث ضرب من ضروب الاستنساخ التاريخي لنسق الهيمنة، في سياق موجة ما بعد «ثورات الربيع العربي»، لمن ستكتب الغلبة؟ لجنون الهيمنة أم مكر العقل؟
الثابت، مثلما يُرتب العقل ذاكرة الإنسان، يعيد ترتيب أجندة النسيان أيضا. هناك حاجة إلى استدعاءات الأنتربولوجيا التاريخية، لفهم لُبوسات الشخصية التاريخية التي تجر فيضا من خيبات الأمل، ولتفسير انكسار الوجدان المغربي، وانعطاب ذاكرته في المرايا المنكسرة، وكذلك، للإمساك ببؤس الواقع وتصحر وعي أفراده، فهل هي أزمة درس التاريخ؟ أم أزمة الوعي به؟ وهل من سبيل لتغيير اتجاه قاطرة الزمن لتمضي بنا على سِكة العقل والحياة كما يقول المفكر المغربي علي أومليل في روايته» مرايا الذاكرة»؟
ساحاتنا العمومية صارت لا مدنية، تضع شرخا بين التاريخ والذاكرة، من أجل بناء ذاكرة جماعية بالتوصيف المدني لا السياسي، السياسي عندنا يتلاعب بالذاكرة، ويستخدمهما لغايات الهيمنة والتحكم، بينما الذاكرة تشترط الخضوع لتوافقات تُمكنها من بناء الضابط الاجتماعي الذي تحدث عنه السوسيولوجي موريس هالفاكس.
حاضرنا مُتحول وبالغ التعقيد، يشتغل بمرجعيات جديدة، وبأسئلة مغايرة، يعيد رسكلة جدلية الخطاب والممارسة، بتصور مانوي، يقيم شرخا، بين قديم يترنح، وجديد لم يولد، ويهوي بالمشروع المجتمعي نحو قفص الإدانة.
في وجوب الحاجة إلى حفر جديد يستند إلى بلازما الزمن، يُعرِّي عن انجراحات الذات المغربية، انعطاباتها الوجدانية، عن إخفاقاتها الحضارية في كل وَصفات الإصلاحية ماضيا وحاضرا، لفهم سؤال الإخفاق التنموي، وكأن مقولة السلطان المولى عبد الحفيظ «داء العطب قديم» تنبعث من جديد بمغرب اليوم، في تفسير مغرب الأماني.
قول المؤرخ قد لا يعجب إلا المؤرخ أو من له مزاج المؤرخ، وهو يَهُمُّ بمكاشفة ميلاد الوطنية في الرحم التاريخي Matrice historique بالمغرب، من حيث هي منظومة فكرية نجحت كنسق متراص في دحر فكرة السيادة المشتركة، ومن حيث هي أيضا حركة سياسية ألغت وظيفية جيش الحماية.
سؤال الوطنية أو المواطنة حارق جدا، ضمن زمنية متلبسة بالتحول. يجري النظر اليوم إلى السؤال انطلاقا من تساؤلات محددة أحيانا، وسياقية أحيانا. من السهل الاستظهار بالبديهيات، الوطنية تدقيقا، شعور، سلوك، وتطلع، الشعور هو الاعتزاز بالذات، السلوك هو الإيثار والتضحية، التطلع هو الحرية والتقدم والرفاهية كما قال العروي…كيف يُمكن للوطنية بصرف النظر عن مضمونها، أن تكون بعد أن لم تكن؟ هنا بالذات، يظهر تفرد العروي عن مُجايليه وحتى عن ورثته.
سؤال الحاضر يستدعي تشييد تحليل نفساني لجوهرية هذا المغربي المُستلب وجدانيا، شبيه بذلك الذي قام به فرانز فانون في كتابه الهام «معذبو الأرض»، حينما قرن مأساة العالم الثالث بأعطابه النفسية، التي أتت من فوهة الغرب، مشيرا إلى أن «اللعبة الأوربية انتهت، ابحثوا عن شيء آخر» le jeu européen est terminée cherchant autre chose
نفسانية مغربية تَربَّت في حضن التواكل، وغابت عنها جرأة الاختيار الفردي والجماعي في اتخاذ القرارات المصيرية. لننصت إلى نبض التاريخ وسكناته.
تاريخيا لم تتشكل لدينا طبقة فيودالية قادرة على جَر المجتمع على نحو فيودالي واضح، ولا طبقة مركنتيلية قادرة على جَر المجتمع على نحو مركنتيلي واضح، ولا طبقة بورجوازية قادرة على تأسيس ثقافة بورجوازية جديدة. باختصار صريح، تجربتنا التاريخية تُزكي الجمود على الموجود، والاستقرار في ظل الانحطاط، لدرجة دفعت العروي إلى القول دون مواربة:» لا يُخلصنا من هذه المحنة سوى معجزة».