3 روايات قصيرة لأشرف العشماوي.. سخرية مريرة وتأثير مذهل

برغم حصوله على جوائز متعددة آخرها جائزة كتارا لعام 2023 عن روايته «الجمعية السرية للمواطنين»، وبرغم التقدير الإعلامي والذيوع القرائي، الذي جعله واحدا من أكثر الكتَّاب المصريين والعرب مبيعا.. إلا أن النقد لم يلتفت بشكل جيد، حتى الآن، لتجربة الروائي المصري أشرف العشماوي، التي بدأت قبل 15 عاما تقريبا برواية «زمن الضباع».
والتفسير البسيط لتلك الحالة هو أن الوسط الثقافي يقلق من النجاح الزائد لكاتب، ويكره فكرة وصوله إلى حالة من النجومية، وتمدد قرَّائه، فهذا الوسط يؤمن بأن ازدياد قراء كاتب معناه أن أعماله ضعيفة، وهي قاعدة ظالمة وقاسية وتنسف جهد هذا الكاتب، مهما حاول أن يطور نفسه.
وقد قرأت في السنوات الأخيرة عدة أعمال للعشماوي، ولمست فيها بحثه عن التجديد، فهو لا يكرر تجاربه، أي أنه لم يقع في إغراء النجاح المضمون، أو مغازلة جمهوره بأعمال يحبها ولا يرضى بغيرها بديلا، ومثلا قدَّم في «الجمعية السرية للمواطنين» عالما كاملا من الفانتازيا رغم انطلاق الرواية من الواقع، وفي «السرعة القصوى صفر» عاد إلى الماضي، إلى زمن الملك فاروق، ليقدم لنا جذور الصراعات السياسية، وها هو في ثلاث روايات قصيرة جديدة ضمَّها كتابٌ واحد بعنوان «مواليد حديقة الحيوان»، يستقي من عالم الجريمة ثلاث حكايات مذهلة للغاية، ويقدمها بشكل مشوق، يجعل من عملية القراءة مطاردة للمتعة، حيث يكون الحدث عاديا، أو أقل من العادي، ثم تبدأ التساؤلات حول شيء ما في حياة الأبطال، شيء له علاقة بالماضي، بأقرب الأقربين، بالتصرفات المشينة، بالخوف من النهايات القاسية كالأحكام بالسجن، أو الخوف من سياط الجلادين، ثم نفاجأ بأن الأحداث العادية تحولت فجأة إلى أحداث لاهثة، وكلما أزلت طبقة من الغموض وجدت طبقة أخرى أسفلها، ثم ثالثة ورابعة، حتى تصل إلى الكلمة الأخيرة في النص، فماذا قدم أشرف العشماوي في هذه الروايات الثلاث القصيرة المذهلة؟
في الرواية الأولى «كابينة لا ترى البحر» تبدأ الأحداث من وفاة الأب والأم. يتعهد الجد والجدة الحفيدين «عارف» و»حياة» بالرعاية. الجد شخص نزق للغاية، يدخن الحشيش، ويجبر «حياة» على ارتداء الحجاب، ودائم الانفعال على عارف بسبب أو بدون سبب. هناك منطقة غامضة في حياة الجد لا يحب التحدث حولها وهي «فترة ليبيا»، فما هي فترة ليبيا؟ هذا ما يحاول أن يصل إليه عارف بمفرده لكننا نحل معه اللغز في النهاية.
ويحدث أن يذهب مع جده إلى «باشا» كبير يعرض عليهما أن يذهبا لقضاء إجازة جميلة في الشاليه الخاص به في الساحل الشمالي، يسافر عارف وشقيقته مع الجد والجدة، ويتنعَّم بالحياة الرائعة في مصيف الذوات، ويخوض مغامرات صغيرة منها علاقته بالخادمة «رفيعة»، وعلاقته بابن الباشا، وغيرهما. كانت الأحداث هادئة وباردة لكنها انقلبت فجأة حين وقعت الفاجعة. ماتت شقيقته حياة بجرعة زائدة من المخدر أعطاها لها ابن الباشا في حفلة من حفلات التحدي. هنا تظهر الشرطة والنيابة، والتحقيقات تدين ابن الباشا بوضوح، ثم يفاجأ عارف بأن جده يطلب منه أن يفتدي ابن الباشا، ويقول له مهما حدث فإن شقيقتك لن تعود، والأفضل لك أن تدخل السجن مقابل ملايين تحولك إلى باشا وتضمن لك مستقبلك. لا تكون هذه آخر المفاجآت، فقد فهم عارف ما هي «فترة ليبيا» جيدا الآن. الجميع كان يردد أن الجد ذهب ليعمل في ليبيا لعدة سنوات، مع أنه في الحقيقة كان يفتدي الباشا بالسجن بدلا منه في قضايا فساد. يقدم أشرف العشماوي صورة مذهلة للتحلل الأخلاقي في الطبقة الدنيا، التي يمثلها الجد، وكيف تسوغ لنفسها مبررات السقوط، وفقدان العمر في الزنازين المعتمة الرطبة الخانقة، بل وكيف تورث أبناءها وأحفادها تلك الأخلاق المتهتكة الرخيصة المولعة بالصعود مهما كلف الأمر.
وأنت لا تكاد تفيق من صدمة الرواية الأولى حتى تصدمك الرواية الثانية «مزرعة الخنازير» بأحداث أكثر سوادا، وبأبطال أكثر انحلالا وتهتكا. قد يكون بطل الرواية هو فايز، الشاب المسيحي، الذي ارتكب خطأ ما، في بلدته بصعيد مصر، جعله فريسة للجماعات الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي، وقد يكون بطلها ومحركها هو المحامي الفاسد، الذي يستغل معرفته بخطيئة فايز، ويبدأ في وضع خطة لإنقاذه، لكنها في الواقع خطة تهدف إلى التكسُّب من ورائه. ودَّع فايز اسمه وشكله إلى الأبد. أطلق لحيته وغيَّر ملابسه وحصل له المحامي على أوراق ثبوتية مزيفة جعلته رجلا مسلما، ثم بدأ في ذبح الخنازير التي كان يربيها في المنيا، وإضافة الخلطة، التي ورث سرَّها عن أبيه، على اللحوم لإخفاء رائحتها القذرة ولونها الداكن، وبدأ إدخالها بكميات ضخمة إلى القاهرة باعتبارها لحوما ممتازة مستوردة، في نفس العام الذي منع فيه الرئيس السادات ذبح إناث الأبقار. أطار طعم اللحوم عقول سكان القاهرة، فهرولوا خلف صاحبها، ووجدوه رجلا متدينا، صاحب ملامح ملائكية، وآمنوا بأنه شيخ أرسله الله لهم لحمايتهم من الجوع، فأحبوه وبجلوه، وهم لا يعرفون أنه يرتدي قناع شخص آخر، وشريك المحامي وبعض رجال السياسة الفاسدين في إطعامهم لحم الخنازير.
لا تكف الرواية عن الانعطافات الحادة المفاجئة، وكلما آمنا بأنها النهاية لا ريب.. تظهر قمة أخرى ومفاجأة جديدة، تجعلنا نهرول لنعرف ماذا تخبئ لنا الأحداث في تلك الفترة الغريبة من تاريخ مصر.
وفي الرواية الثالثة «مواليد حديقة الحيوان» يتعرض بطلها إسماعيل لضغط من محاميه أيضا لإقناعه بأن يرفع قضية على الدولة يطالبها بتمكينه من «مخزن» أبيه في حديقة الحيوان. كان الأب هو حارس بيت السباع وتُضرَبُ به الأمثال في الشجاعة، فقد هربت الأسود في الماضي وكاد أحدها أن يلتهم طفلا.. إلا أن الأب يقتله ويعيد الطفل إلى أمه. المحامي أقنع إسماعيل بأن الدولة يجب أن تستجيب لابن الرجل العظيم، وكان إسماعيل قد حصل لتوه على وظيفة حارس بيت الفيل، وخطط مع خطيبته عايدة لدخول حديقة الحيوان سرا مع بعض الكراكيب ثم احتلال مخزن الأب لإثبات أنهما كانا يعيشان هنا، لكن الحراس يمسكون بهما.
بالصدفة كان آخر أسدين تمتلكهما حديقة الحيوان قد نفقا، والمدير تعرض لمحنة كبيرة فقد أرسلت إليه الرئاسة المصرية تطلب منه تهيئة الحديقة لزيارة الرئيس السادات ومعه الرئيس الكيني لرؤية الأسدين اللذين أهدتهما كينيا لمصر، والمدير المتورط طلب من إسماعيل وخطيبته عايدة أن يشتركا في تمثيلية من تدبيره، وهي أن يرتديا جلد الحيوانين النافقين ويوضع عليها الرأسان الحقيقيان للأسدين حتى تمر زيارة السادات وضيفه. قَبِل الاثنان بسبب وعد المدير بتمكينهما من مخزن الأب ليتزوجا فيه مع مبلغ مالي محترم يبلغ ألف جنيه. المدير أقنعهما أيضا بأن الجهات السيادية ترعى العملية، وأن ما يقومان به هو في الحقيقة «من أجل مصر». تكبر الكذبة حتى تنفجر في وجوه الجميع باغتيال السادات في نفس اليوم واتهامهما بالمشاركة في «تنظيم الأسد» الذي خطط للإجهاز على الرئيس المؤمن.
كتابة شديدة الإمتاع، تعتمد على حكايات غرائبية مدهشة من قلب الواقع، ومن أرشيف الجريمة. كتابة تعيد تفسير سقوط المجتمع المصري في التدين الشكلي وفي تقديس أخلاق الرذيلة والطموح غير المبنى على واقع ومحاولة إيجاد ثغرة للإفلات من المطرقة الضخمة التي تهوي عليهم بدون تمييز أو رحمة.


الكاتب : حسن الموجود

  

بتاريخ : 12/08/2024