5 أسئلة لفهم التحول الاستراتيجي للمغرب نحو الصناعات الدفاعية

شهد المغرب يوم الثلاثاء الماضي حدثا بارزا في مسار تطوير قدراتها الدفاعية، مع تدشين مصنع «تاتا» Advanced Systems Morocco في منطقة برشيد بضواحي الدار البيضاء. هذا المصنع، الذي تم افتتاحه بحضور مسؤولين مغاربة وهنديين، أصبح أول منشأة لإنتاج عربات مدرعة من طراز Wheeled Armoured Platform (WhAP 8×8) داخل المغرب، موجهة بداية لتلبية حاجيات القوات المسلحة الملكية، مع إمكانيات تصديرية مستقبلية نحو أسواق إفريقية.
ويعكس هذا الحدث الانتقال من الخطاب الاستراتيجي إلى التنفيذ الفعلي على الأرض، إذ يشكل نقطة انطلاق جديدة في سياسة المغرب الرامية إلى توطين صناعات الدفاع، وتعزيز سيادته الأمنية، وتطوير قاعدة صناعية ذات قيمة مضافة عالية. كما يعكس المشروع الطموح الاقتصادي للدولة، الذي يربط بين الأمن القومي وفرص الاستثمار والتشغيل، في إطار استراتيجية شاملة لتعزيز حضور المملكة على الصعيدين الإقليمي والدولي في قطاع الدفاع.

 

1-ما دوافع المغرب لتعزيز قدراته الدفاعية وطنياً؟

في منتصف ماي من العام الجاري، قال جلالة الملك محمد السادس إن “المغرب يتطلع إلى بناء قدرات دفاعية وطنية متقدمة تسهم في تعزيز الأمن والاستقرار، وتفتح آفاقاً جديدة للاقتصاد الوطني عبر تطوير صناعات عسكرية ذات قيمة مضافة عالية”. ولم يكن هذا التصريح الذي تضمنه الخطاب الملكي الموجه بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لتأسيس القوات المسلحة الملكية مجرد كلام عابر، بل شكل نقطة انطلاق استراتيجية لمرحلة جديدة من الاستثمار والتطوير في قطاع الصناعات الحربية والدفاعية، التي باتت تحتل أولوية قصوى في السياسات الاستراتيجية المغربية.
هذا التوجّه يعكس إدراك المغرب لأهمية امتلاك قاعدة صناعية وطنية دفاعية قادرة على تلبية حاجيات القوات المسلحة الملكية وتأمين موقعه الإقليمي، مع الاستفادة من الفرص الاقتصادية والاجتماعية التي تتيحها الصناعات ذات التقنية العالية.
وعلى مستوى الدوافع الجيوسياسية والإقليمية فإن منطقة شمال إفريقيا والساحل تشهد تحولات جيوسياسية متسارعة، مما يفرض على المغرب إعادة تقييم استراتيجياته الأمنية والعسكرية. فمن جهة، يُلاحظ التنافس التقليدي مع الجزائر، الذي دفع إلى سباق تسلّح متسارع، حيث كشف تقرير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI) أن واردات المغرب من الأسلحة ارتفعت بنسبة تفوق 50% خلال العقد الماضي، فيما ضاعفت الجزائر إنفاقها الدفاعي خلال الفترة نفسها. هذا التوازن الحذر، حسب خبراء أوروبيين، يجعل الاستثمار في الصناعات الدفاعية خيارًا استراتيجيًا للمغرب لضمان استقلالية نسبية في مجال التسلح، بدل الارتهان الكامل للواردات الخارجية.
من جهة أخرى، يعتبر المغرب حليفا رئيسيا للولايات المتحدة من خارج حلف الناتو منذ 2004، وقد كثف تعاونه مع واشنطن في مجالات الأمن والدفاع، وبرز كمنصة استراتيجية لمواجهة التهديدات العابرة للحدود في المنطقة. كما أن الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي ينعم به المغرب مقارنة بجيرانه يجعله خيارًا مفضلاً للشركات الدولية الباحثة عن موطئ قدم في إفريقيا.
على الصعيد الإقليمي، تراهن الرباط على موقعها كبوابة بين أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء لتطوير صادرات دفاعية مستقبلية، خصوصًا في مجال الطائرات المسيرة والمركبات العسكرية الخفيفة. وقد نقلت مجلة Jeune Afrique عن محللين فرنسيين أن المغرب يطمح في المدى المتوسط إلى التحول من مستورد كبير إلى مُصدر جزئي للمعدات الدفاعية الموجهة لدول إفريقية صاعدة تبحث عن حلول منخفضة التكلفة.
في هذا السياق، تُعد الشراكات الاستراتيجية مع دول مثل الهند خطوة مهمة نحو تعزيز القدرات الدفاعية المحلية. ففي 24 سبتمبر 2025، تم تدشين مصنع “تاتا” الهندي للمدرعات (WhAP 8×8) في برشيد، الذي يعتمد منذ البداية على 35% من المكونات المحلية، مع خطط لرفع هذه النسبة إلى 50% على المدى المتوسط. هذا المشروع لا يقتصر على تعزيز القدرات الدفاعية فحسب، بل يُسهم أيضًا في خلق فرص عمل وتطوير مهارات القوى العاملة المغربية.

2-كيف يتم تحويل هذه المخططات الاستراتيجية إلى واقع ملموس على الأرض؟

لم تمض سوى أسابيع قليلة على هذا التوجّه الخطابي حتى تجسدت بعض مقتضياته على أرض الواقع بصورة سريعة وحاسمة؛ إذ دُشّن هذا الأسبوع مصنع Tata Advanced Systems Morocco في منطقة برشيد بضواحي الدار البيضاء، خلال مراسم حضرها مسؤولون مغاربة وهنديون، ليصبح هذا المصنع أول منشأة لإنتاج عربات مدرعة من طراز Wheeled Armoured Platform (WhAP 8×8) تعمل داخل المملكة وتُوجَّه بدايةً لتلبية حاجيات القوات المسلحة الملكية مع إمكانيات تصديرية نحو أسواق أفريقية لاحقة. يعكس هذا الافتتاح انتقال المخططات من خطاب إلى تنفيذ فعلي على الأرض.
المعطيات التقنية المبلغة رسمياً من طرف المؤسسة الهندية وشركائها تفيد أن المنشأة تُقام على مساحة تقارب 20 ألف متر مربع، وأن الإنتاج بدأ قبل الموعد المعلن بثلاثة أشهر، مع اعتماد مبدئي على نحو 35% من المكونات المحلية في أولى دفعات الإنتاج وهدف تدريجي لرفع هذه النسبة مع تشكّل سلاسل التوريد الوطنية. المصنع مُصمّم لإنتاج منصة WhAP 8×8 متعددة التكوينات قادرة على أداء مهام نقل الجنود، وتكوين وحدات قيادة ميدانية، ووحدات إسعاف ميداني، ووحدات دعم نيران بحسب التكوين، كما تمت مراعاة قابلية التعديل والتكيّف لأسواق التصدير.
وتُعدّ هذه الخطوة جزءاً من نسيج أكبر من المبادرات والإجراءات الحكومية التي أعطت دفعة قوية لتوطين صناعات الدفاع خلال العامين الأخيرين؛ فقد خصّصت ميزانية 2025 اعتمادات تبلغ حوالي 133.453 مليار درهم، أي زيادة تقارب 7% عن 2024، وهو مؤشر واضح على أن الإنفاق بات لا يقتصر على اقتناء العتاد فحسب بل يتجه نحو بناء منظومة صناعية وطنية تدعم البحث والتطوير والبنى التحتية والتكوين. هذه الموارد المالية الكبيرة تغطي صفقات تحديث وتزويد بوسائل جوية وبرية وأنظمة دفاع جوي، وتواكبها مبادرات مؤسسية لتهيئة الفضاءات الصناعية واللوجستية اللازمة.

3-ما هي البنية المؤسساتية والقانونية لدعم هذا التحول؟

على المستوى التنظيمي والمؤسساتي، أقدم المغرب على خطوات ملموسة لإعادة ترتيب مشهد الحاضنة الصناعية الدفاعية، فقد صدر مرسوم رقم 2.25.428 في 9 يونيو 2025 ينص على إنشاء شركة خاصة بتصميم وتسيير “مناطق صناعية دفاعية” بالشراكة بين الوكالة العسكرية للتجهيز (ALEM) وMEDZ التابعة لصندوق الإيداع والتدبير، وهو إطار مؤسساتي يهدف إلى توفير فضاءات متخصصة تجمع تصنيع التجهيزات العسكرية، الصيانة، البحث، والسلاسل المكمّلة، مع إدارة مركزية تقلّل التشتت البيروقراطي وتمكّن من انتقاء الشركاء والاستثمارات وفق معايير أمنية وصناعية. إنّ هذه البنية الإدارية الجديدة تُعدّ استجابة عملية لتوجيهات عليا داعية إلى توطين صناعات دفاعية ذات قدرة تنافسية.
وفي منتصف العام الماضي، أعلن المغرب عن إحداث منطقتين للصناعة العسكرية، بهدف توفير مناطق صناعية لاحتضان الصناعات المتعلقة بمعدات وآليات الدفاع والأمن وأنظمة الأسلحة والذخيرة، وهو ما يعتبر خطوة مهمة نحو البدء في صناعة السلاح. كشفت تقارير متخصصة بخصوص “اقتراب المغرب من الوصول إلى صناعة الطائرات المسيرة الحربية”، أن المغرب لن يتخصص فقط في إنتاج مسيرة ’الكاميكازي’ الإسرائيلية، بل سيتم افتتاح مصنعين لإنتاج ثلاثة أنواع على الأقل من الطائرات المسيرة، تشمل ’الكاميكازي’ وطرازين آخرين هما ’WanderB’ و’ThunderB’، وهما من إنتاج شركة ’بلو بيرد’ الإسرائيلية، مع احتمال توسع الصناعة لتشمل مسيرات أخرى مثل ’هيرون’ و’هيرميس 900’.
وفي منتصف 2025 صادقت الحكومة على مرسوم يخول للوكالة المغربية للتجهيزات العسكرية وشركة MEDZ تأسيس شركة مشتركة لتطوير مناطق صناعية مخصصة للصناعات الدفاعية، باسم “Société de gestion des zones industrielles de défense”، برأسمال مبدئي 300 ألف درهم موزع بالتساوي بين الوكالة وMEDZ. ستتولى الشركة تصميم وتشييد وتدبير وتسويق المناطق الصناعية المخصصة لإنتاج وصيانة المعدات الدفاعية والأسلحة والأنظمة المرتبطة بالأمن والدفاع، تجسيداً لاتفاق استراتيجي تم توقيعه في نوفمبر 2023 بين وزارات الاقتصاد والصناعة وإدارة الدفاع الوطني ومجموعة CDG، ضمن تنفيذ مقتضيات قانون 10.20 المتعلق بالمعدات الدفاعية والأمنية.

4-ما أبرز مجالات الابتكار الصناعي والتقني في المغرب؟

يمكن قراءة افتتاح مصنع Tata في برشيد كحالة نموذجية لتوظيف خبرات الصناعة المدنية في خدمة الأهداف العسكرية؛ فقد اكتسب المغرب خلال العقد الماضي تجربة معتبرة في قطاع السيارات والطيران المدني، ما أتاح له بنية تحتية لوجستية وكفاءات متخصصة يمكن إعادة توجيهها أو إدماجها في سلاسل قيمة دفاعية.
ومن المناطق التي شهدت تحركاً عملياً واضحاً قطاع الطائرات بدون طيار؛ إذ أطلق المغرب شراكات واتفاقيات مع فاعلين دوليين لإرساء خطوط إنتاج محلية وصيانة متقدمة للطائرات المسيرة، بدءاً من وحدات استطلاع خفيفة وصولاً إلى نماذج هجومية محدودة، مع عمليات تسلّم أنظمة متقدمة من طراز Bayraktar التركية، واتجاه نحو تركيب وتوطين أجزاء من منظومات الطائرات المسيرة.
يتكامل هذا الحضور مع تحديث أوسع يشمل إدخال أنظمة إلكترونية متقدمة، وتقنيات مراقبة واستشعار مدعومة بالذكاء الاصطناعي، وبرمجيات تحكم متقدمة، مع الاستثمار في نقل التكنولوجيا في مجالات البرمجيات المضمّنة وأمن المعلومات والتحكم عن بعد. اقتصادياً، يخلق هذا التحول آلاف فرص الشغل المباشر وغير المباشر، ويوسع قاعدة الموردين المحليين، ويعزز البحث العلمي التطبيقي، مع إمكانية تقليل فاتورة الاستيراد وتكوين كفاءات تتقاطع مهاراتها مع القطاع المدني.
ويعزز التحول الاستراتيجي نحو الصناعات الدفاعية الترابط بين هذا القطاع والقطاعات الصناعية المدنية المتطورة في المغرب، خصوصًا صناعة السيارات والطيران والإلكترونيك. فالمملكة اكتسبت خلال العقد الماضي بنية تحتية صناعية ولوجستية متقدمة، إضافة إلى خبرات تقنية ومهارات هندسية عالية في مجالات التجميع الدقيق، وأنظمة الدفع، والإلكترونيات المتقدمة. وقد أصبح بالإمكان توظيف هذه الخبرات في قطاع الدفاع، سواء عبر تحويل خطوط إنتاج السيارات إلى إنتاج مركبات مدرعة، أو عبر تطوير أنظمة إلكترونية وبرمجيات تحكم للطائرات المسيرة، ما يقلل الاعتماد على الواردات ويخلق فرص عمل متخصصة. هذا التكامل بين الصناعات المدنية والعسكرية يعكس نموذجًا مزدوج الفائدة، يربط بين التنمية الاقتصادية الوطنية وتعزيز القدرة الدفاعية، ويؤسس لقاعدة صناعية وطنية قادرة على الابتكار وتلبية حاجيات السوق المحلية والإقليمية.

5-ما التحديات والمآلات الجيوسياسية لهذا التحول؟

رغم التقدم الملحوظ في مجال توطين الصناعة الدفاعية، يواجه المغرب عدة تحديات في هذا المجال. أولاً، يتطلب تطوير صناعة دفاعية محلية متكاملة استثمارات ضخمة في البحث والتطوير، بالإضافة إلى بناء بنية تحتية صناعية متطورة. ثانيًا، هناك حاجة لتدريب وتطوير الكوادر البشرية المتخصصة في مجالات الهندسة والتصنيع العسكري، وهو ما يستدعي شراكات مع مؤسسات تعليمية وتدريبية متقدمة.
من جهة أخرى، يعتبر التنوع في الشركاء الدوليين خطوة استراتيجية نحو تقليل الاعتماد على مصدر واحد للأسلحة والتكنولوجيا. فبالإضافة إلى التعاون مع الولايات المتحدة والهند، يسعى المغرب إلى تعزيز علاقاته مع دول أخرى مثل تركيا وإسرائيل، حيث تم توقيع اتفاقيات تعاون في مجالات الطائرات المسيرة والصواريخ. هذا التنوع يُمكّن المغرب من الحصول على تقنيات متقدمة وبأسعار تنافسية، ويُعزز من استقلاليته في اتخاذ القرارات الأمنية.
على المدى البعيد، يطمح المغرب إلى أن يصبح مركزا إقليميا لصناعة الدفاع، ليس فقط لتلبية احتياجاته الأمنية، بل أيضا لتصدير المعدات الدفاعية إلى دول إفريقيا جنوب الصحراء. هذا التوجه يتماشى مع رؤية المملكة في تعزيز مكانتها كقوة إقليمية ذات تأثير في مجالات الأمن والاستقرار الإقليمي.


بتاريخ : 26/09/2025