554 مقاولة، 3751 صحافيا والمبيعات تتهاوى من 200ألف نسخة إلى 35 ألفا والصحافة المغربية على مفترق طرق بين البقاء والانقراض

 

كشفت عنها ندوة نظمتها الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين بالدار البيضاء

 

كشفت ندوة نظمتها الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين، يوم الخميس الماضي بالدار البيضاء، عن أرقام صادمة ترسم ملامح أزمة وجودية تعيشها الصحافة المغربية، تتجاوز بكثير مجرد عثرة ظرفية. فقبل سنوات قليلة فقط، كانت الصحافة الورقية المغربية تبيع ما يقارب 200 ألف نسخة يوميا، لكن هذا الرقم انحدر إلى 76 ألف نسخة في بداية الجائحة، ليستقر عند حدود 35 ألف نسخة سنة 2021.
هذا الانهيار في القراءة ترافق مع تراجع حاد في المداخيل، حيث تراجعت مداخيل الإعلانات بنسبة 13 في المئة سنة 2018، ثم تكبد القطاع خسائر فادحة قدرت بـ 243 مليون درهم خلال ثلاثة أشهر فقط مع بداية كورونا، و لا يتجاوز رقم معاملات القطاع بأكمله ،اليوم، مليار درهم سنويا، ولا تتعدى مداخيل التوزيع اليومية 160 ألف درهم، ما يؤكد أن التحدي هو تحدٍ مصيري للبقاء.
وتكشف الصورة المقدمة في هذه الندوة، عن هشاشة هيكلية عميقة في بنية المقاولات الصحفية نفسها، التي بلغ عددها 554 مقاولة إلى حدود متم 2024. التفاصيل أكثر إثارة للقلق، وفق ما جاء على لسان المشاركين في الندوة ، فإن 153 مقاولة يشتغل بها صحافي واحد فقط (ما يعادل 27,6 في المائة من المجموع)، و 78 مقاولة تضم صحافيين اثنين (14,1 في المائة)، و 52 مقاولة تضم ثلاثة صحافيين (9,4 في المائة)
وهذا يعني أن أكثر من 51 في المائة من المقاولات الصحفية لا تتوفر على الحد الأدنى القانوني من الصحافيين المهنيين والبالغ أربعة أفراد.
في المقابل، تضم 48 مقاولة أربعة صحافيين (8,7 في المائة)، و 70 مقاولة خمسة صحافيين (12,7 في المائة)، و 49 مقاولة ستة صحافيين (8,9 في المائة)، بينما تتراجع النسب بشكل حاد في المؤسسات الأكبر.
أما عدد الصحافيين الحاصلين على البطاقة المهنية، فقد بلغ العدد 3751 صحافيا (دون احتساب الشرفيين والأحرار)، يمثل الذكور منهم 69,7 في المائة بينما تمثل الإناث 30,3 في المائة. وحسب لغة العمل، يشتغل 3085 صحافيا بالعربية (82,2 في المائة)، و 509 بالفرنسية (13,6 في المائة)، و 114 بالأمازيغية (3,1 في المائة)، و 23 بالإسبانية (0,6 في المائة)، و 20 بالإنجليزية (0,5 في المائة).
ويظهر التوزيع المؤسساتي، وفق ما أشارت إليه هذه الندوة، تحولا كبيرا نحو الرقمي، حيث يعمل 1880 صحافيا في الصحافة الإلكترونية (50,1 في المائة)، بينما يعمل 766 في الصحافة الورقية المرتبطة بموقع إلكتروني (20,4 في المائة)، و 779 في القنوات التلفزية الثلاث (20,8 في المائة). ويبلغ عدد المعاهد والمؤسسات التي تمنح دبلوم الصحافة بالمغرب 125 معهدا ومؤسسة، وهو رقم يطرح إشكالية التكوين في ظل سوق عمل متدهور.
هذه الأرقام السوداء ليست سوى الأعراض الظاهرة لواقع مرير، حيث شدد المشاركون في الندوة على أن القطاع يعاني من خمس أزمات كبرى متشابكة، أزمة اقتصادية تتمثل في تراجع المبيعات والإشهار، وأزمة محتوى يعبر عنها بانخفاض الإنتاج الصحفي النوعي من تحقيقات وربورتاجات وتحليلات، وأزمة توزيع لضعف التوزيع الورقي والإلكتروني وهيمنة المنصات الكبرى، وأزمة تكنولوجية، وأزمة موارد بشرية تعكس صعوبة استقطاب الكفاءات واستمرار ضغوط المعلنين على المحتوى.
هذه الأزمات مجتمعة تضع المقاولات الإعلامية على حافة الانهيار، وتجعل شعارات استقلالية الصحفيين والتعددية الإعلامية رهينة لوضع مالي خانق.
في خضم هذا السياق المأزوم، ينفجر الجدل حول مشروع قانون المجلس الوطني للصحافة، الذي يتضمن 98 مادة، لكن النقاش العمومي، كما جاء في الندوة، انحصر في أربع مواد فقط تتعلق بالعقوبات.
وأثير في الندوة أن هذا المشروع، الذي يهدف إلى إعادة تنظيم المجلس، يمنحه صلاحيات جديدة في الوساطة والتحكيم والانتخابات والاعتراف بالدبلومات، إلا أن التركيز الحاد على مواد العقوبات قد حجب النقاش الحقيقي والأكثر إلحاحا حول جوهر الأزمة.
وكشفت المداخلات أن 60 بالمائة من عمل اللجنة المؤقتة لتسيير المجلس الوطني للصحافة، انصب على التفكير في سبل تقوية المقاولات الصحفية، باعتبار ذلك الشرط الأساسي والأولي لحماية أخلاقيات المهنة ومستقبلها. وتمت الإشارة إلى أن انهيار المقاولة يعني حتما انهيار الصحفي، كما تمت الدعوة إلى تطوير خطاب جديد يتوجه إلى الجيل الرقمي، مع التحذير من مخاطر إقحام صناع المحتوى غير المهنيين في الساحة، لأن ذلك يشكل تهديدا مباشرا للمهنة ككل ولآلاف الأسر التي يعيلها.
وتقاطعت جميع المداخلات في التأكيد على حقيقة جوهرية، أنه لا حرية ولا تعددية ولا استقلالية حقيقية من دون مقاولات إعلامية قوية وقادرة على الاستثمار في التكنولوجيا والموارد البشرية، فحرية الصحافة وتعددية الرأي واستقلالية المؤسسات الصحفية ترتبط ارتباطا عضويا و مباشرا بقوة هذه المقاولات وقدرتها على الصمود.
الأرقام التي كشفت حجم الانهيار الاقتصادي، والجدل المحتدم الذي يثيره القانون، يضعان الصحافة المغربية أمام مفترق طرق تاريخي، إما أن تتحول هذه الأزمة العميقة إلى فرصة حقيقية لبناء نموذج مهني واقتصادي متجدد، قائم على التعددية والجودة والاستقلالية، أو أن تظل مجرد ظل باهت لماض مجيد، في انتظار مصير يهدد بالانقراض.


الكاتب : جلال كندالي

  

بتاريخ : 20/09/2025