اتحاد كتاب المغرب: زعموا أن المسألة ثقافية
كان المؤتمر 17 لاتحاد كتاب المغرب، الذي انعقد يةمي 28و29 نونبر 2008، مناسبة لحظة فكرية مطوقة بالعدييد من الأسئلة المتعلقة باستقلالية الاتحاد، رهان المؤتمر، الاتحاد والشباب، العلاقة مع الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، تدبير الاختلافات.
في هذا السياق فتح «الملحق الثقافي» لجريدة الاتحاد الاشتراكي، كدأبه، صفحاته للكتاب لمطارحة هذه الانشغالات والمساهمة في صياغة أجوبة قد تسعف في رسم وترسيخ مسار الاتحاد الذي انتهجه منذ نشأته في الستينات.
1
يشكل انعقاد المؤتمر السابع عشر الاتحاد كتاب المغرب لحظة من اللحظات الأساس دائما في تاريخ الثقافة المغربية الحديثة والمعاصرة. وسيظل هذا الانعقاد دوما بمثابة مفتاح من مفاتيح تأمل المشهد الابداعي والفكري والأدبي في المغرب. على الأقل من خلال الورقة الثقافية وما تقدمه، وما يمكن أن تقدمه من أسئلة وإشكالات تتعلق بالنسق العام وبمسارات هذه الثقافة المغربية أصلا، ناهيك عن بعض الأجوبة، بصدد هذا النسق وهذه المسارات في ملامحها الكبرى التي تتجاوز ظرفية المؤتمر لإمكان تأطير مساحات غير مطروقة على مستوى الممارسة الثقافية.
في المؤتمرات السابقة منذ منتصف السبعينيات مثلا، كان الهاجس السياسي يطغى في الطرح والمساءلة والنقاش خاصة بالنسبة لعلاقة اتحاد كتاب المغرب بالدولة بالمعنى الضيق والمعتاد إلى حد صدور بعض الوثائق عن تحليل متشدد تجاه النظام السياسي بحكم الواقع المتردي للحريات عامة وحرية التعبير خاصة، واعتقال أو متابعة ومحاكمة بعض الكتاب من أعضاء الاتحاد ومصادرة كتبهم بهذا الشكل أو ذاك وإن كنا لا نملك وثيقة بينة وصريحة في هذا الباب، أي في نازلة المصادرة، غير أنه لا يمكن التغاضي عن إيقاف ومنع مجلات ثقافية من قبيل «الثقافة الجديدة و الجسور» و «الزمن المغربي»، و«البديل»، قياسا على اختفاء «أنفاس» قبل ذلك، أي قبل الثمانينيات.
الآن في ما يبدو تراجع الهاجس السياسي نسبيا لصالح «هاجس مطلبي»، واسع يتعلق بوضع الكاتب الاعتباري مثلا أو صفة النفع العام ولصالح «هدنة ما» وتوافق من إحساس غير معلن رسميا لحاجة بين الطرفين إلى بعضيهما البعض للاشتراك في صياغة أفق بصدد الديمقراطية والحداثة، والبحث عن سبل تكريس أهمية الكتابة والابداع والفكر في مجتمع يعاني ما يعانيه من تزايد تفشي الامية والهدر المدرسي والاستلاب والتشدد الديني والبطالة وفقدان الهوية. كل هذا مع مراعاة نوع من التوازن الشكلي في علائق التواصل بين اتحاد كتاب المغرب والمؤسسات التابعة للدولة بالمعنى الاداري الرسمي، ثم إن الدولة نفسها، انطلاقا مما تحياه من أوضاع منقلبة في القول والفعل والقرار والاستشارة بكل معانيها بالنسبة إلى ماهو مفترض أن يكون له أهميته على غرار أهمية التعليم والاعلام والتنمية، أي المسألة الثقافية، لم تعد لديها رغبة مباشرة في التشويش على سياسة الاتحاد الثقافية وهذا الأخير لم يعد يهدد ايا كان بخلاف ما كان يظن قبل الآن حين كان اتحاد كتاب المغرب يحشر أنفه يحشر نفسه في ما لا يعنيه، وإن كان يعنيه ويعني الدولة نفسها، لكن الذي يبدو هو أن الدولة لا تملك مشروعا ثقافيا محددا أولا ولا تملك استراتيجية تخطيط واضحة المعالم في مجال الثقافة أو في المجال الثقافي لأسباب عديدة، لعل أبرزها صعوبة إدارة هذا المجال بحكم تعدد مظاهر الممارسة الثقافية وتنوع أشكالها وروافدها وتعبيراتها ولغاتها، منها على الأقل صدور ميثاق ثقافي علی غرار میثاق التعليم وميثاق الاعلام ومواثيق أخرى تزيد في ضمان الاستقرار وتجنب التوتر.
هكذا نقف التفاتة في المغرب على هامش صراع بين قطبين. قطب يسعى لئلا تكون هذه الثقافة إلا بحسب ايقاع تصور تقليدي. (ربما تقليدوي أو تقليداني) لا يتجاوز حدود ماهي عليه شكليا وصوريا، وقطب يأمل أن تكون هذه الثقافة عماد بناء الدولة الحديثة، كما يجب، على أنقاض دولة المخزن التي اكتفت باستقطاب قطب وأطر وباحثين لخدمة تقليديتها، وتلك هي أبرز مفارقة من مفارقات النسق السياسي في المغرب على أن المقصود بالتقليدية هنا ليس التقليد الجاف كما تمتهنه عدد من أحزاب ومنظمات ومؤسسات وإنما هي أدلوجة طبقات وفئات وشرائح تنزع نحو المحافظة وترفض التحديث والتجديد أو لا تقبل بهما إلا في حدود المنفعة الظرفية لمزيد من تكريس سكونية المشهد السياسي هذه المرة وليس المشهد الفني، الفكري والإبداعي فقط. كما تشهد بذلك عدة مهرجانات ولقاءات وندوات ومناسبات يكتفي فيها بالاحتفاء وهلم جرا.
2
اتحاد كتاب المغرب يظل في هذا الباب «حرا» في التحليل والتأويل و «النقد» وغير محكوم بلضرورة ما بالانصياع لما تمليه مفارقة التقليدية المترسبة في الأذهان والقيم والممارسات حتى لدى ما يسمى عنتا وعبثا وبتعسف كبير، بل ببلاهة مفرطة: التقنوقراط لأن هؤلاء في الغالب وهم نوع من المليشيا الرمزية رغم تكوينهم العالي.
علميا ومعرفيا كما يقدمون وكما يستقدمون إلى الحكومات والمناصب والمسؤوليات بل يغرر بهم، وإن كان القصد أن يغرر بنا، غير معنيين بالمسألة الثقافية في المغرب. إما لأنهم عاجزون عن إدارتها والخوض فيها أو حتى تلمس وجودها وكنهها وصيرورتها، وهذا أدهی، أو لأنهم لا يبالون بها لأنها تحرجهم في رؤيتهم الممزقة للعالم لما تشكله من خطر عليهم، وعلى مكانتهم ومواقعهم كما يظنون، نظرا لارتباطها بالهوية والوطن وهو ما لا يكلفون أنفسهم عناء التفكير فيه، بل لأنهم يجهلونها – الثقافة – ويجهلون تراكماتها و منجزاتها الحالية. ولأنهم أيضا وهذه مفارقة أخرى لا تقل فداحة عن اإديولوجية التقليدية والمحافظة، غير مثقفين وفيهم نسبة كبيرة لا تقرأ ولا تكتب بقدر ما تجهل وتتجاهل ما تحقق في النسق الفكري والنقدي والابداعي والفني في المغرب راهنا وعلى مدى عدة عقود، إن لم يكن حتى منذ ما قبل الاستقلال.
لن أذكر في هذا السياق بكتابات و دراسات وأبحاث علال الفاسي، محمد حسن الوزاني، محمد المختار السوسي، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، عبد الكبير الخطيبي، عبد السلام بنعبد العالي، علي أومليل، كمال عبد اللطيف، سالم يفوت، محمد سبيلا، عبد الرحمن طه، محمد مفتاح، سعيد يقطين، عبد الفتاح كيليطو، محمد العمري دون أن ننسى محمد برادة، أحمد اليبوري، عباس الجيراري، محمد بنشريفة، وكذلك في نسق آخر محمد الطوزي، محمد الناجي، عبد الله حمودي، أما الروائيون والقصاصون والشعراء والمسرحيون فذلك أمر لا يستدعي المساءلة بتاتا لأن هؤلاء التكنوقراط وإن درسوا في الخارج يظلون محدودي أفق الانتظار المفروض عليهم في ثقافتهم التقنية، بحيث لا يخرجون من دائرة اختصاصاتهم كما يزعمون كما لا يخرجون من دائرة العموميات حين يتعلق الأمر بالمسألة الثقافية والنسق الفكري النقدي والابداع المغربي، وهكذا يفوتون على أنفسهم فرصة الانتماء إلى التاريخ والعصر والمرحلة، بل متعة الاطلاع والاستفادة واكتمال الشخصية بالمعنى المطلوب في إدارة المؤسسات ودفع البلاد إلى النهوض والرقي، ومع ذلك تجدهم يتهافتون على المناصب والمسؤوليات.
المسألة ليست مسألة ثقافية أو «المسألة الثقافية» في المغرب كما يسعى اتحاد كتاب المغرب الى التأمل والتفكير والمبادرة في ذلك بل هي مسألة اختيارات تكاد تكون ذاتية بالنسبة لمن يضعون على عاتقهم مسؤولية الثقافة المغربية التي ليست مجرد نصوص وكتابات وأبحاث ودراسات وقضايا وإشكالات، وإنما هي أساس بناء الدولة في والمجتمع والانسان والمجال. وهؤلاء التكنوقراط الذين ابتلانا الله بهم في أوج رياح العولمة الكاسحة لا يريدون دولة حديثة ولا علاقة لهم بأي مجتمع سوى مجتمع المال والبورصة والعقار والصفقات والمضاربات والامتيازات. وأعدى عدو لهم هو الانسان وشخصية الانسان المغربي بخلاف ما يطمح إليه اتحاد كتاب المغرب الذي رسخ، عبر تاريخه الثقافي منذ تأسيسه، فكرة أصالة الثقافة المغربية بكل مكوناتها وعناصرها الموروثة والمستجدة بقدر ما سعى دائما إلى تأمل مظاهر التعدد في هذه الثقافة عبر ندواته ولقاءاته وأنشطته ومنشوراته كما تترجم هذه الاخيرة مجلة «افاق». ولعل في هذين البعدين أصالة الثقافة المغربية ومظاهر التعدد – ما يجعل اتحاد كتاب المغرب بمثابة العقبة الكأداء في طريق من هم ضده أو معه. الذين ضده يحرجون لأنهم يريدون أكثر من اللازم أو أكثر مما يستحقون والكل على هواه وحسب رضاه، دون جدل. والذين معه يكتفون بالتقية أو طاقية إخفاء لمجرد استفادة خاصة، في حين تستدعي أخلاقية الضرورة تجاوز نظرة التبعية والارتقاء إلى بلورة أسس هوية فكرية ثقافية محكومة بالنقد والنقد المزدوج بالأساس، لا المحاسبة فقط الى حد جر الاتحاد الى المحاكم بغنوصية مفرطة.
هذا ما ينبغي أن يفكر فيه أعضاء اتحاد كتاب المغرب الفعليون لا الذين يكتفون بامتلاك العضوية وحضور المؤتمر والانتماء إلى لجنة أو فرع أو الترشح بهياكله المسيرة أقصد عضوية الاتحاد الدينامية في الحرص على العطاء وعدم تحميل اتحاد كتاب المغرب أكثر مما يطيق أو النظر إليه نظرة استعلاء .الاتحاد بما له وما عليه، هو فضاء مفتوح للانخراط الطوعي والتطوعي من أجل التأمل والتفكير ومساءلة الذاكرة والحاضر والمستقبل على ضوء وإيقاع التجارب الإبداعية والفكرية والنقدية التي يراكمها أعضاؤه من داخله ويراكمها غيرهم دون أن يكونوا أعضاء بالضرورة.
لايمكن لاتحاد كتاب المغرب أن يحل المسألة الثقافية وحده، كما لايمكن أن يحلل ولا أن يحرم هذه الثقافة أو تلك، بل لايمكن لاتحاد كتاب المغرب أن يحل محل الدولة في مسألة الثقافة، والثقافة المغربية من بين الثقافات الإنسانية المعاصرة من خلال لغاتها وصيغها وأشكالها ومتخيلاتها ونصوصها المدونة والمكتوبة والشفوية، العامة والشعبية، مما يستدعي أكثر من ورقة ثقافية توزع على المؤتمر وتناقش ويصادق عليها أو لا يصادق، ويستدعي أكثر من ندوة أو لقاء أو تظاهرة أو مهرجان أو ملفات في «آفاق» وفي غير «آفاق».
يفرض هذا الواقع المركب على الساهرين على هذه الثقافة، خارج اتحاد كتاب المغرب بالتحديد، تجاوز الرؤية العازلة نهيا أو احتقارا بمعنى ما وتمكين ممارسيها الجديين المهتمين من شروط الفعل الثقافي لترجمة أصالة الثقافة المغربية بتعددها وتنوعها الخلاق. المدخل الرئيسي لهذا هو تمتيع اتحاد كتاب المغرب بالفعل بصفة النفع العام التي ظلت حبرا على ورق رغم ما يقال في تفعليها لأزيد من عقد لأسباب غامضة أبرزها، ربما ما سعيت إلى التلميح إليه على امتداد هذه المقاربة إلى أن يثبت العكس، لأن الجفاء الذي يسري في هذه النازلة جفاء خلافي نابع من سطوة كوجيتو محتبس مداره الاحساس بأن الثقافة عموما تهدد السياسة وبأن السياسة غير مضمونة العواقب بالتصريف الشكلي لقيودها وأعرافها، فإن حماة الهيكل يحرصون على عدم الخوض في المسألة الثقافية، مرددين قناعة كم من حاجة قضيناها بتركها.
هذا لا يعني أن اتحاد كتاب المغرب في حاجة إلى الدعم المالي وحده بل إلى مزيد من التفكير العقلاني المنظم بالنسبة الى ما يمكن أن يسمى سوسيولوجيا وذهنيا وجماليا وفكريا «المجال الثقافي»، شأنه في ذلك شأن المجال الديني أو المجال الحقوقي أو المجال الرياضي.
وهذا ما يلزم الجميع باعتبار اتحاد كتاب المغرب والعديد من الجمعيات الثقافية شريكا بالمعنى العميق للشركة الي تعني الإنصات وتفعيل الرأي والاهتمام بالتحليلات والتشخيصات المقدمة لهذا المجال في العديد من شؤون الدولة والمؤسسات كالتعليم والإعلام والتنمية والنشر والقراءة.
التعليم، مثلا يتطلب المراجعة قبل أي إصلاح فوقي يمارس بارتجال يعرض المدرسة العمومية للتلف والإتلاف قدر ما يعرض الجامعة للأفول والانهيار. الإعلام يتطلب الحرص على منح أهله نوعا من الثقة البعيدة عن النوازع والأهواء وعن ثقافة التشفي والاغتياب ثم الزجر والعقاب .القراءة شرط من شروط ممارسة الهوية وإثبات الذات في مواجهة الغياب والظلامية والسوداوية والعدمية والعنف والشعبوية. الخطابات التي تحاصر الثقافة المغربية في فضاء المدرسة والجامعة والبيت والشارع والحي والمدينة، وتحاصرها أيضا رؤية انعزالية تصادر على المطلوب وتقف في وجه الهوية المشتركة للمغاربة بغض النظر عن أعراقهم وأهوائهم ومراتبهم وانتماءاتهم.
ما أحوجنا الى مزيد من الضوء ومن رحابة النفس كي ندرك أن اتحاد كتاب المغرب بوصلة في أرخبيل الثقافة المغربية التي تدعونا إلى استدعاء حكمة «إيقاد شمعة» خير من لعن الظلام، وأكاد أقول غير لعن الظلام، بعيدا عن الهدم والهدر، ومناسبة انعقاد المؤتمر السابع عشر لاتحاد كتاب المغرب أمل وتوق الى مزيد من اتقاء العثرات المتلاحقة في صيرورة بناء الدولة الحديثة والحرص على حمايتها من اتباع الظلام كيفما كانوا.
زعموا أن المسألة مسألة ثقافية وأزعم أنها ثقافية أكثر من ذلك.