في الحاجة الى الاتحاد 2/2
أعد «الملحق الثقافي» للجريدة، بمناسبة انعقاد المؤتمر 15 لاتحاد كتاب المغرب ملفا يوم الجمعة 9 نونبر 2001. وضمنه ورقة هامة ننشرها اليوم للدكتور كمال عبد اللطيف تناولت التوجهات الفكرية للاتحاد ومختلف التفاعلات والأسئلة التي كانت تتشكل في نسيج الثقافة المغربية المعاصرة ، وما لعبة التأطير المؤسسي للاتحاد من دور في بلورة تقـالـيـد أسـاسيـة في مجال العمل الثقافي الجمعي والجماعي، وفي مـجـال الـعـمـل الـثـقـافـي الـهـادف إلى إسناد الـتـحـولات الـتـاريخـيـة والسياسية، بل بناء وتركيب التوجهات الثقافية القادرة على دعم مختلف أشكال التطور والتحـول التي تلاحقت في تاريخنا المعـاصـر، حيث لا يمكن فـصل الفاعلية الثقافي عن أسئلة محيطها السياسي والاجتماعي.
3
لم يكن أمر استمرار الاتحاد طيلة أربعة عقود في تاريخ الممارسة الثقافية المغربية ، وفي انحـياز تام لمشـروعـهـا المستقبلي في التقدم والإبداع والتحرر، أمرا هينا ولا بسيطا، وفي كـفـاح أولئك الذين تحـمـلـوا مـسـؤوليـة مكاتب الاتحاد، ومسؤولية تدبيـر أنشطتـه الثقافية، ورسائله السياسية المتواصلة، ما يعكس حيوية واحدة من أبرز وأهم مؤسسات المجتمع المدني في بلادنا، وخاصة في الزمن الذي كان يعاني من ندرة هذه المؤسسات، أو افـتـقـارهـا متى وجـدت للأهداف الفكرية والسياسية التي التزم بها.
وقد حرص اتحاد كتاب المغرب أن يظل فضاء للحوار الثقافي الاكثر حداثة والأكثر تاريخية، معززا ومدعما جبهة الفكر النقدي وعاملا على ترسيخ فعل التجريب المبدع في مجال التخييل وإنشاء فنون القول الجميل، إبداعا ونقدا وتشكيلا.. كما عمل على تأطير كل هذه الأشكال من النشاط الثقافي والفني رغم شح الموارد الماليـة، وانعدام الوسائل والأدوات المساعدة والمشجعة، وظلت المنح الصغيرة التي كـان يـتلـقـاها من الوزارة الوصـيـة على الشؤون الـثـقـافـيـة، وكذا المساعدات التي كانت تقدمها بعض الهيئات الداعمة للعمل الثقافي الملتزم، ثم اشتراكات الأعضاء التي تقدم قبل انعقاد المؤتمر، ظلت هذه الموارد المحدودة والبسيطة هي الوسائل التي تمنحه إمكانية الاسـتـمـرار ومـواصلة العمل.
لقد اعتمد الاتحاد منذ بداياته وبالدرجـة الأولى على موارده البشرية المنتجة، أعضاء الاتحـاد الفاعلين والمنتجين المؤمنين بدور الثقافة في التنمية الشاملة، وعملت أجيال الكتاب المغاربة بكثير من الإخـلاص على صناعة المجـد الـرمـزي للاتحـاد وطنيـا وفي الساحة الثقافية العربية، حيث كان ينظر إلى استقلاليته باعتبارها رأسمالا رمزيا مؤسسا لممارسة متميزة في العمل الثقافي، ممارسة لا تقيدها رهانات العلاقات التابعة للسلطة، ولا ترهن مصيرها الولاءات التي تقلص من جذوة التغني والحلم بالحرية والإبداع.
واكبت مسيرة الاتحاد جهود الفاعلين في حقل الثقافة المغربية، واستطاع ضمن شروط مـادية دنيـا أن ينـحـول بـطـمـوحـه الثـقـافي التاريخي، ومشروعه الثقافي إلى مؤسسة قادرة على دعم ثقافة التغيير، التي كانت تنشأ بموازاة مـع مـشـروع استكمـال الـتـحـرير السياسي والاقتصادي في بلادنا.
لا يعني هذا أن الاتحـاد كـان مـجـرد إطار تابع، فقد انحاز فعلا خلال مسيرته لاختيارات معينة واتخذ مواقف محـددة، بل إنه ساهم في التأسيس النظري لهذه الاختيارات، فقد كان أعضاء الاتحاد من الكتاب والمبدعين والمثقفين الملتزمين بالحس التاريخي بفضل انخراطهم في الصراعات السياسية القائمة في بلادنا، يزاوجون بين نشاطهم السياسي وفاعليتهم الثقافية الفكرية والإبداعية، حيث أثمر فعل المزاوجة شكلا من أشكال انخراط الاتحاد في خدمة مشروع التحرر الثقافي والاجتماعي في كليته وشموله.
إن انحـيـاز الاتحـاد لـثـقـافـة مـعـينـة كـان محصلة إرادة جماعية معلنة، ولم يكن في يوم من الأيـام مـسـألـة خـارجـيـة. كان الانـحـيـاز استقلالا واخـتـيـارا وإرادة واعية، وترتبت عن هذا الأمر جملة من النتائج المحددة لكيفيات عمل الاتحاد، وكيفيات انخراطه السياسي والثقافي في معركة التحديث والتنمية. وقـد عكست هذه المزاوجـة بين الـثـقـافي والسياسي، كما تبلورت في التاريخ الفعلي للاتحاد خلال العقود المنصرمة نوعيات الفهم التي كانت سائدة في موضوع علاقة الثقافي بالسياسي، وهو الموضوع الذي ظل حـاضـرا ومهـيـمـنا بصـور مـخـتـلـفـة على كثير من السجالات والصراعات التي كانت تنشأ قبل مـؤتمرات الاتحـاد وأثناء هذه المؤتمرات وبعدها.
وخـارج حـسـابات السياسي التي كـانت تحـضـر بـجـرعـة أكـبـر خـلال لحظات الإعـداد للمؤتمرات، وبعد انتهائها، ظل الاتحاد أفقا لاحتضان المبادرات الثقافية الخلاقة ببلادنا ،وظلت مشاريعه المدعمة لاخـتـيـارات الـحـداثة الثقافية والسياسية بمثابة ملمح بارز في أنشطته وآثاره، وهو الأمر الذي رسم للاتحـاد وجـوهـا مـشـرقـة في تاريخ العـمل الثـقـافي المؤسسي في بلادنا.
4
عـاد سـؤال الاتحاد الى الظهـور فـي نهاية العقد المنصرم، وساهمت في عودته بصورةجديدة مـجـمـوعـة من المتغيرات التي لـحـقت المشهد السياسي والمشهد الثقافي في بلاده، إضافة الى المتغيرات العالمية التي دفعت ولاتزال تدفع في اتجـاه إعـادة النظر في التاريخ، وفي أدوار المثقفين والكتـاب داخل المجـتـمـع، في زمن يـتـسم بملامح وسـمـات تختلف كلية عن ملامح الأزمنة التي نشأ فيها الاتحـاد وتطور، وذلك دون أن نغفل النتـائج الذاتيـة الخـاصـة المرتبطة بتطور تجـربة الاتحاد بالذات، حيث يمكن الحديث عن نتائج تجـربـتـه فـي عـمـلـيـات الـتـحـول الـسـيـاسيو الـثـقـافـي القـائمـة والمحـتـمـلـة الـحـصـول في المستقبل المنظور، أقصد بذلك الدعـوة الى تقييم تجربة الاتحاد من الداخل والعمل على كتابة تاريخه، وكذا التفكير في مستقبله.
ولأن الاتحـاد كـان دائمـا مـرآة لـنـوعـيـات الصـراع المتشكلة في قلب الواقع الـثـقـافي والسياسي، ولأن الفاعلين الـثـقـافـيين من أعضاء الاتحاد قد شكلوا في تاريخ الثقافة المغربية المعاصرة كتلة من الطلائع الحـيـة لقـوى الـتـقـدم في بلادنا، فقد ترتب عن ذلك معطيات ونتائج نفترض أنها ساهمت ولاتزال تساهم في التاريخ الاجـتـمـاعـي والـثـقـافي والسياسي ببلادنا.
لقد شارك اتحـاد كـتـاب المغرب في المعارك الكبرى التي عرفها مغرب الاستقلال، وعبرت مواقفه عن درجات من تواصل النخبة المبدعة مع مجريات الأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية، وسـاهم انخـراط رمـوز الـثـقـافـة المغـربـيـة فـي مـؤتمرات الاتحـاد وأنشطتـه الثـقـافـيـة المتنوعة في إبراز مـصـداقـيـتـه التـاريخـيـة، فظل الاتحـاد عنـوانـا لاخـتـيـارات محددة في الفكر والأدب والسياسة، وهو الأمر الذي أضفى على حضوره قـوة، ومنحه كما قلنا، جـدارة المؤسسة التاريخية الفاعلة في تلافيف المشهد الثقافي المغربي، وقد ترتبت عن هذا الحـضـور المتـمـيـز مكاسب رمـزية لا ينبغي التقليل من قـيـمـتـهـا أو التنقيص من شأنها.
ولأننا نؤمن بضرورة الاتحـاد وضـرورة استثمار مكاسب تجربته في الفعل الثقافي الـجـمـاعـي، فـإننا نؤمن في الوقت نـفـسـه بـضـرورة تطويره في ضـوء المخـاضـات والأسئلة الجديدة التي تدور الـيـوم في أفـقنـا الثقافي، ولهذا السبب، ننظر إلى ظاهرة تشكل مجموعة من الهيئات الثقافية المتخصصة في الفكر والإبداع في الثقافة المغربية باعتبارها ظاهرة صحية، وهي تعكس جوانب من وتيرة التنوع القائمة والمتنامية في محيطنا الثقافي، وقد استطاع الاتحـاد دائمـا أن يتمتع بمكانة استثنائية بجوار هذه المؤسسات التي كانت موجودة دائما بصور وأشكال مختلفة. إن رصيد الاتحـاد الرمـزي والـجـمـاعي، وتقاليـد عـمله المؤسسية تشكل اليـوم رافـدا قويا من روافد جبهة العمل الثقافي الحداثي في بلادنا، ولا نعتقد أن المؤسسات الثقافية الأخرى تقلص من هذا الرصيد، بل إن استفادة المؤسسات الوليـدة من تجارب الاتحاد تكفل لها إمكانية التطور الذي يمنحها مصداقية أكبر ومردودية أفضل.
إننا نربـط حـاجـتـنا إلى الاتحـاد بمبـدأ أسـاسي يتـمـثل في ضـرورة تطوير أشكال حضوره الثقافي، وأدائه في المجال الجمعوي. فأمـام المنافسة المتزايدة في المجال الثقافي المغربي، ينبغي التفكير في كيفيات تفعيل أدوات الثقافة بالصورة التي تمنحه حـضـورا يناسب نوعية الـتـحـول التي يعرفها الفضاء الثقافي ومـجـال المعرفة والفن في بلادنا في مطلع الألفية الثالثة، وفي إطار مـغـرب يريده الجميع أرضا للتعاقدات التاريخية العقلانية الجديدة، حيث يشكل الرافد الثقافي الإسمنت اللاحم والناظم لصيرورة في التاريخ تتوخى التصالح مع ذاتها ومع العالم، وذلك ببناء ما يمكن الوعي الـتــاريـخـي الجـديـد المرتبط بالمتغيرات الجارية. ولن يتمكن الاتحـاد في نظرنا من أداء هذا الدور إلا بفتح نقاش جـدي أولا حـول تـجـربتـه التي صنعها الجميع، وتوافق حولها الجميع، ومن حق أعـضـائه الـجـدد والـقـدامي، أن يصـوغـوا الـيـوم، وفي تجـاوب مع الأحـداث الجـاريـة (تجـربة الانـتـقـال الـديمقـراطي والاحـتـمـالات التي يمكن أن تترتب عنها) في بلادنا أبرز خلاصاتها وبكثير من الشفافية مع الحرص على استعمال المبضع النقدي، من أجل الاسـتـفـادة من تجارب الماضي والعـمل على رسم الاختيارات الجديدة للاتحاد، أقصد بذلك رسم المعالم الكبرى للاختيارات الثقافية القادرة على استيعاب متغيرات الراهن، وبناء القناعات والرؤى الفكرية، الجماعية المطابقة لتطلعات مجتمعنا.