عبد الرحمان اليوسفي: هل سنعبر الممر الذي يفصلنا عن مغرب نتطلع إليه منذ عقود،
أم سنظل أسرى هذا التحول الصعب؟
عرف افتتاح المؤتمر 15 لاتحاد كتاب المغرب في 9 نونبر 2001، حضور نوعيا ضم عددا من الوزراء يتقدمهم الوزير الأول الراحل عبد الرحمان اليوسفي الى جانب ممثلي وفود فلسطين، الجزائر، إسبانيا. وكان لحظة متميزة وغنية بالدلالات التي تتصالح مع قوة الاتحاد وتجذره في النسيج الثقافي والجمعوي بالمغرب. ونعيد هنا نشر كلمة الاستاذ عبد الرحمان اليوسفي.
إنه لمن دواعي الفخر والاعتزاز أن أحضر معكم افتتاح أشغال المؤتمر الخامس عشر لاتحاد كتاب المغرب، هذه المنظمة التي ما فتئت تغذي الحوار الوطني العام بحيوية وإخلاص كبيرين. وأود هنا أن أشكر لكم دعوتكم الكريمة هاته التي ستمكنني من الاستفادة والمساهمة في لحظة ثقافية بليغة من هذا الحوار الهام.
وإنها لمناسبة لأن أوجه من هذا المنبر تحية تقدير وإكبار لكتابنا وأدبائنا ومفكرينا الذي كانوا ومنذ اندلاع الشرارات الوطنية الاولى في ربوع بلادنا، صوت الذين لا صوت لهم، وحملة المثل والرؤى والافكار التي صنعت ملامح مغرب اليوم واستطاعوا بالإخلاص للكتابة وبالاخلاص لمبادئهم أن يشيدوا إحدى القلاع المنيعة للدفاع عن وحدة البلاد وحريتها، وعن حرية التعبير، وحرية الاختيار، وعن الحق في مجتمع عادل وديمقراطي. ولا غرابة في أن يكون جلهم قد دفعوا الثمن غاليا من حياتهم ومن حريتهم إخلاصا لهذا الاختيار.
كما أنها لمناسبة أيضا لأذكر هنا بكثير من الاعتزاز بتلك الخطوات الجريئة التي بدأ بها المغرب المستقل مساره الثقافي عندما أصدر قانونا للحريات العامة يحترم التعدد ويشجع عليه، ويترك مجالا واسعا لحرية التعبير والنشر، وهو ما ساهم في إرساء تقاليد أساسية، كان من أبرزها انعتاق الكاتب من المهام القسرية، التي دأبت الانظمة الشمولية على تكبيل المثقفين بها، كما كان من أهمها أيضا بروز عدد من المبادرات الخاصة من دور نشر، ومجلات ثقافية ومنظمات مستقلة، لاشك أن اتحاد كتاب المغرب كان من أقدرها على العطاء والاستمرار.
ولقد كان لهذه التقاليد الاستثنائية، في تلك المرحلة، أقوى الأثر في تجديد مياه الكتابة في بلادنا، فظهرت تجارب تحديثية رائدة في الشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي والفني والعلوم الانسانية والاجتماعية، كما فتحت أوراشا فكرية غذت الجامعة والمجلات والمنشورات، وأخصبت الجدل في مجتمعنا حول الالتزام، والحرية، وجدوى الادب، وعلاقة الفكر بالتاريخ والمجتمع، وقضايا اللغة والهوية وتحولات المجتمع وفئاته.
إن هذا التدفق الحيوي هو الذي مهد الطريق لبروز أسماء قوية لامعة نعتز بها جميعا، هي التي تنسج اليوم أفقنا المشترك.
إذا كانت السمة التي تطبع علاقة الكاتب بالحقل السياسي هي نوع من الخصام الأبدي يبرره جنوح السياسي – بطبيعته – الى تدبير الممكن، وجنوح المبدع – بطبعه – الى تدبير المستحيل، فإن ذلك لا يمنع من نشوء مسلمات متقاطعة يكون الطرفان فيها منغمرين بنفس الإيقاع في لحظة تاريخية مشتركة.
لذلك اسمحوا لي، أن اتوقف لحظة عند هذا التقاطع الممكن، بل والضروري لمواجهة التحديات الكبرى التي تميز فجر هذه الألفية الجديدة.
إن بلادنا تعرف ولاشك إحدى مراحلها الأكثر إثارة للأسئلة والتوقعات، وقد لا يكون صعبا أن نعدد نقط قوتنا الكامنة في استقرار بلادنا وتماسكها وتقدمها المؤكد على طريق البناء الديمقراطي، غير أن هذه العوامل التي تبعث على الاطمئنان يجب ألا تحجب عنا ما يعتمل في أحشاء مجتمعنا، من قلق لا يكف عن التنامي، ومرد ذلك يرجع بالتأكيد الى صعوبة الاصلاح في بلادنا، فكلما اقتربنا من تحقق وشيك، وإلا وظهر عدد من العوائق منها ماهو مادي صرف ومنها ماهو سياسي، ومنها ماهو ثقافي. لذلك نجد أنفسنا اليوم أمام سؤال يقض مضاجع المجتمع السياسي والمدني على السواء: هل سنعبر هذا الممر الذي يفصلنا عن مغرب نتطلع إليه منذ عقود أم سنظل أسرى هذا التحول الصعب؟
إن الأمر لا يتعلق بمجرد سؤال سياسي يطال الاستحقاقات المقبلة، بل يمس جوهر التحول نفسه، أي ذلك البعد الأخلاقي الذي يجعل البناء السياسي يستند الى الحق، والبناء الاقتصادي يستند الى الفضيلة، والبناء الاجتماعي يستند الى التضامن.
لذلك، ومهما يكن اليوم حجم الإرادة السياسية المشتركة لطي صفحة الماضي وبناء مغرب مختلف، فإن الحاجة ماسة الى إسناد هذه الإرادة بطاقة ثقافية نفاذة تقتحم كل المعابر والمساحات الممكنة لترسيخ هذا البعد الأخلاقي ولتكوين جبهة فكرية وإبداعية تعيد للنقد رسالته النبيلة، وللجدل قدرته على تحرير العقول والأفكار، وللمساءلة قدرتها على كشف الحقيقة وعلى إسقاط الأقنعة.
إن إيماننا الشديد بخصوصية حقل الكتابة وباستقلالية الكاتب هي التي تجعلنا نؤمن الى أبعد الحدود بأن الدور الحاسم للفكر والإبداع في كل مشروع للتغيير، هو دور لا يمكن تعويضه بأي حزب ولا بأي تيار سياسي، إنه دور يتسامى على الحدود والمساحات المغلقة ليرسم معالم التبدل الحضاري التي لايمكن بدونها خلق آمال جديدة، ولا ولادة أجيال جديدة من الوطنيين المخلصين.
ومن هذا المنظور، فإننا نعتبر أن دعم كتابنا ومفكرينا ومبدعينا في صلب بناء الدولة المغربية الحديثة. كما نعتبر هذا الدعم في صميم مهامنا الرامية الى توفير الشروط الموضوعية لتحقيق استقلالية أحد المكونات الرئيسية لمجتمعنا المدني، خاصة في ظل عهد يشهد ميلاد جيل جديد من الكتاب وينظر الى التكامل الوظيفي بين الدولة والمجتمع كتوجه وطني قد يؤسس لتعاقد من شأنه أن يساعد على إعادة إنتاج نخبنا الثقافية والسياسية.
وإذا كان هذا التوجه سيسمح لهذه المكونات الحيوية بلعب دور طلائعي في المستقبل التنموي والديمقراطي لبلادنا، فإنه يعد المفتاح الحقيقي لتوفير المناعة الضرورية لنسيجنا الاجتماعي والسياسي والثقافي.
ولهذه الأسباب مجتمعة، فإننا مدعوون جميعا حكومة ومجتمعا مدنيا وسياسيا، الى الانخراط في مسار يهدف الى تعميق كل ما من شأنه أن يقوي هذا التعاقد، وذلك من خلال فتح قنوات جديدة للحوار وعبر بلورة أشكال نوعية للشراكة وذلك طبقا لمنظور وطني لما يجب أن تكون عليه الأدوار المستقبلية للكاتب وللثقافة وللنخب بصفة عامة داخل الاقتصاد والمجتمع.
إننا كما تعلمون – نعيش حاليا في عالم مطبوع بتوترات ثقافية تنذر بأوخم العواقب، وهو ما يناقض بصورة مأساوية النتائج الباهرة لتقدم التكنولوجيات الحديثة، التي جعلت تدفق المعرفة والتواصل مرادفا للحرية في عالم اليوم.
ومن المفارقة أن يكون التعبير الأشد بلاغة عن هذه التوترات هو الجهل بالآخر، ورفض الاختلاف والتعدد وبناء امبراطوريات ثقافية خانقة تكرس النمط الأوحد، وتنسف بسطوة صناعاتها اختلاف وتعدد العالم الثقافي.
إن هذا الوضع فضلا عما يخلقه من صدامات عنيفة ومدمرة، يعبتر تهديدا مباشرا لثقافات دول الجنوب. لذلك ندعو الى بلورة سياسات ثقافية منسقة لتقوية نسيجنا الثقافي وحماية منتوجنا الوطني، وتوسيع دائرة إنتاج واستهلاكه. إن اندماجنا في المحيط الثقافي العالمي المتسم بالتنافسية الحادة وقوة المؤسسات الثقافية، يمر عبر حماية تراثنا، وعبر قدرة إبداعنا على التجدد والانفتاح، وعبر الارتقاء بشروط إنتاجنا من المحدودية والهواية، الى التوسع والمهنية العالمية.
لقد أدركنا منذ تحملنا للمسؤولية أن إدماج البعد الثقافي في مشروع التغير والتنمية أمر استراتيجي، مثلما أدركنا أن الاستفادة من حيوية الحقل الثقافي في بلادنا لن تبلغ مداها إلا بسن سياسة عمومية في المجال الثقافي تدمج التراث في محيطه وتدعم الانتاج والتداول وتشجع المقاولة الثقافية على الاستمرار والتوسع. ومن المؤكد أن الكتاب كان له في هذا التوجه موقع مركزي نتمنى أن تثمر الجهود المشتركة بين القطاع الخاص والمرفق العمومي تقدما نوعيا يوسع من تداوله وإنتاجه. ويجعل القراءة في مجتمعنا تقليدا راسخا ورافدا أساسيا من روافد الكتابة.
على أننا نعتقد جازمين أن كل تقدم لسياستنا الثقافية لن يؤتي أكله إلا إذا اقترن بجهد جبار لربط شبابنا وشاباتنا بمجتمع التواصل والمعرفة عبر المؤسسات التعليمية والثقافية في المدرسة والجامعة ودور الثقافة والفضاءات العمومية للقراءة. حتى يتسنى لهذه الأجيال أن تنتمي الى عصرها بيسر وسهولة، ولن تنغرس في تربتها الثقافية الوطنية باقتناع وتجانس.
إن مواجهة التحديات الآنية والمستقبلية، تقتضي منا جميعا إدراك الصعوبات والعوائق في حجمها الحقيقي دون استصغار ولا تهويل، والتحلي بروح إيجابية تقدر حق قدرها الخطوات الكبرى التي خطاها المغرب والآمال الكبيرة التي يفتحها هذا العهد الجديد بقيادة عاهلنا المفدى صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، كما تقتضي التشبث بالقيم التي صنعت قوة المغرب وجاذبيته الحضارية والمتمثلة في تقاليد الانفتاح والتسامح والثقاة في المستقبل.
لا أريد أن تفوتني هذه الفرصة لأوجه تحية
تضامن وإجلال الى كتاب وأدباء فلسطين وهم يقاومون وسط شعبهم شراسة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وهجوماته الهمجية على العزل من أبناء الشعب الفلسطيني، وهم يدافعون عن حقهم المشروع في بناء دولتهم الوطنية وعاصمتها القدس الشريف.
كما لا يفوتني أن أوجه كل مشاعر التضامن والأخوة الى أشقائنا كتاب وأدباء العراق الشقيق وهم يكابدون وسط شعبهم ويلات الحصار الجائر ويستمرون في الكتابة كما كان الأمر دائما في هذه الارض الطيبة، مهد الكتابة والحياة.
إن لنا في هؤلاء الأشقاء صورة لا تضاهي قوة ورمزية وهي تؤكد لنا في كل لحظة أن معين هذه الامة لن ينضب أبدا”.