سؤال الكتابة وتفاعل النقد  .. البعد النثري والإشراقي في العالم الشعري عند علي أزحاف

قراءة في المتن

ديوان الشاعر علي أزحاف المعنون بـ” طرق بسيطة لفهم العالم“..، الذي صدر حديثا في مصر ضمن إصدارات اليوبيل الذهبي ، حيث يؤكد الشاعر المغربي صوته الخاص في المشهد الشعري العربي المتميز . ديوان طرق بسيطة لفهم العالم يقع في 136 صفحة تقريبا ويضم 84 قصيدة قصيرة، هو الرابع لهذا المبدع فقد أصدر قبله: «ترانيم بوذا الصغير» عن دار روافد في مصر عام 2015، و»يستبد بالحديقة الفراغ» عن روافد أيضًا 2016، و»تحت جلدي مقبرة» عن دار «نيو بروميثيوس» المغربية 2017، فضلًا عن مجموعته القصصية «نخب البحر»، التي كانت أول إصداراته عام 2008.
قصائد الديوان تنتمي إلى حساسية ما يُعرف ب «قصيدة النثر»، التي تميل إلى التكثيف  والإيحاءات المضمرة ، والتقشف الشديد في استخدام اللغة ، كما أنها تستغنى –تقريبًا- عن المجاز التقليدي، حيث تَصنع مجازها المميز الذي يرتكز على السخرية والنشوة الإبداعية المتعددة ؛التي تستدعي الإعتماد على مخزون معرفي متميز وتجربة حياتية خاصة .

قصيدة النثر عند علي أزحاف ومفهوم الكتابة:

عرف المشهد الشعري بالمغرب تنويعا في الكتابة ، من حيث ارتفاع عدد الكاتبات والكتاب، ومن حيث جمالية الكتابة و هندسة البناءات الشعرية ، ومن وحي نضج الوعي بأهمية هذا الجنس الأدبي (الشعري ) باعتباره اللون التعبيري الأكثر تداولا في التقاط اليومي و تمثيل الظواهر الاجتماعية و النفسية و الإنسانية عامة… و من بين الأسماء الصاعدة في هذا المجال، تأتي مساهمة المبدع الشاعر علي أزحاف في ديوانه «طرق بسيطة
لفهم العالم «.
تعد الكتابة شكل التوجس من أجل التعبير عن مراحل تطور الإبداع عند علي أزحاف وتنويع طرقه ، بين القصة والقصيدة والعمل الإذاعي كصحفي متمرس، حيث يحتل القول الشعري مركز البوح والرغبة في التعبير بهاجس الصراع والتمرد ضد القوانين الشعرية الموروثة . بهذا نجد علي أزحاف؛ يميز بين مفهومين: مفهوم اللغة الشعرية ، ومفهوم الكتابة بالشعر التي تقتضي عنده الوضوح وقوة البرهان والدليل وحسن الأداء الشعري . وتكون وظيفته الدعوة إلى الرأي والبوح المسترسل . إن هذه الملامح ليست جديدة كل الجدة عما سبق أن نظر لها نقاد قصيدة النثر مثلا ، حيث تشترك فيها الكتابة والقصيدة. ويبقى الفرق بينهما في تعدد الأساليب والأجناس داخل الكتابة. يقول الشاعر :
« في ظل واحد..
يرافقني طوال الليل،
ويختفي أول النهار
لا أدري أين يختفي …)ص (6

العتبة و تنوير الداخل :

إذا كان الدرس النقدي المعاصر قد أبرز ما للعتبات النصية من أهمية بنائية و تدليلية في عملية تلقي النصوص ، سواء كانت تلك العتبات عناوين أم مقدمات أم مقتبسات أم إهداءات … فإنها جديرة بالدراسة والتتبع لما تتيحه للقارئ من إمكانية الولوج إلى عوالم النص و الاقتراب من مداراته الدلالية الكامنة أو المتوارية بين طياته وكشوفاته التعبيرية . لذلك يَشْبِه عنوان الديوان « طرق بسيطة لفهم العالم»   الرقعة التي تغطي مساحات البوح في القول الشعري الديوان ، إنه أثر تدليلي يَحمل القارئ إلى عالم النص ويكشف ميولاته واستيهاماته من منظور المقاربات النفسية في فهم تجليات الإبداع وخاصة أن التحليل النفسي يفسر الإبداع باعتباره حزمة من الرغبات والمحفزات التي توجه سلوك الانسان في جميع أنشطته وتصرفاته وفي علاقاته مع الآخرين ، وتسترفد من التجارب الموروثة والخبرات المتراكمة والأعطاب النفسية المتعاقبة، ومن ثم ؛فهو يسائل الأدب من وجهة الاستيهامات والرموز و الأساطير مثلا … ليضعه ضمن كوكبة الظواهر الثقافية المتنوعة ، مما يتطلب قراءة هذا المتن من زوايا متنوعة تستجيب لكل التجارب النقدية المعاصرة ، باعتبار الديوان مفتوح على تطويع المناهج الأخرى في التعامل مع لغته القادرة على الفعل والتأثير والتعامل معها بما هي لغة الرغبات والاستيهامات تارة ، ولغة التجريد والواقع تارة أخرى تمتح من المكونات السوسيو ثقافية والسوسيو نفسية المترسخة. في الفضاء التداولي الذي يقترب منه الشاعر علي أزحاف :
« ضع علبة سردين مفتوحة الفم على حافة النافذة ،
لاحظ كيف يأتي الطير أسرابا من باب الفضول ،
وكيف يستغل القط الفرصة ليتمتع بوجبة خالية
من المصبرات والمواد الخالية
..ضع قبلة على فم دمية باردة تشبه امرأة،
لاحظ كيف تشرئب الأعناق من باب الفضول،
وتخفق القلوب الصناعية في صدر العالم الإفتراضي،
وكيف تغض أبصارها خفرا كل النساء العاشقة .)ص (11
وهذا ليس بالصعب على علي أزحاف فهو القادر على خلق المتعة في شرح اللغة والشعر والأحاسيس وجعلها شيقة من خلال اللجوء إلى استخدام المتعة في الكتابة ؛ حيث تُعتبر لغة الشعر عنده من أفضل الطرق المستخدمة لتعليم الأحاسيس ؛ وكأنه يجعل من مهنة الكتابة استخدام ألعاب القول الشعري لجعل المتلقي أكثر قدرة على التفاعل مع القصيدة .
يعتقد أزحاف بأنه يجب استغلال الشعر في تحقيق رفاهية الإنسان ، ولهذا حاول إنشاء نظام لغوي مبني على العقل والأحاسيس ، يفرض على الإنسان التفكير في خياراته بدافع الرغبة والبحث عن السعادة، الحكمة الشعرية هي نتاج معرفة الذات وكلما كان الفرد أكثر علماً زادت قدراته في التفكير واتخاذ القرارات التي ستجلب له السعادة في فهم العالم .
تعب أثار الخٌطا
فوق جلد الأرض اليابس،
موت ينعي تجاعيد
وجه الحياة العابس،
وأنا فوق دبابات الكلام،
أحاول أن أجعل
من كل قذيفة قصيدة ؟ ص 111»
فوظيفة الشعر عنده تعني الهدم والاسترسال في الكلام دون اعتبار لأي بناء فني. من هنا، ففي كل قصيدة كتبها علي أزحاف نجد قوتين:
قوة فوضوية هدامة تعمل على نفي الأشكال القائمة وتخطيها بسخرية تستفز الثابت فينا ؛
وقوة منظمة تَنزع إلى بناء كل شعري متجدد وعميق . فرهان البعد النثري عنده بناء في تشكيل القصيدة وإعادة تعميق السؤال الشعري.
هذا الشكل الجديد في الكتابة ينبني على الجملة اللغوية بوصفها وحدة لغوية صغرى بدل البيت أو التفعيلة التي بنيت عليه الأشكال الشعرية السابقة. وتتميز هذه الوحدة المتموجة بتنوعها حسب التجربة. وتستمد القصيدة عند علي أزحاف في ديوانه «طرق بسيطة لفهم العالم « بإيقاعها من طريقة بناء الجملة، « وهو إيقاع متنوع يتجلى في التوازي والتكرار والنبرة والصوت وحروف المد وتزاوج الحروف وغيرها. وبذلك تفرض على اللغة الشعرية هيكلا منظما ، وتدخل الحياة والزمن في أشكال متنوعة .
وعلى الرغم من أن قصيدة النثر لا يسمح بالعزلة والاستقلالية المجانية لأنها قريبة من صوت الشارع ونبض المجتمع ، فإنها تفصِل الكلمات وتربطها بالسياق أو تطبعها بنوع من الدلالة الخاصة إلى جانب دلالتها التي تميزه . يظهر ذلك في تفكيك الجمل، والعطف، والتكرار الذي يؤدي إلى نفس الأثر. إلا أن التنظيم الشعري الحاضر بالقوة في قصيدة علي أزحاف يخلق ترابطا خاصا بين الكلمات وِفْقَ قوانين تتطلبها اللغة الشعرية في قصيدة يحكمها منطق داخلي.

البعد الإشراقي في الكتابة عند أزحاف :

إن مفاهيم الرؤيا والحدس والتخييل والبحث عن الخفي والمجهول والكشف ونشدان المطلق، كلها مفاهيم ترتبط بالقصيدة الإشراقية، بل إن قصيدة النثر كما يكتبها علي أزحاف تبنى خارج سلطة العقل وبمراقبته، وذلك قصد النفاذ إلى الدواخل وعيش حالة إشراق بالاعتماد على التلقائية كما في قصيدته «بالأبيض و الأسود « في لوحات بيكاسو يتحول الأزرق ….إلى مدى أفسح من السماء، والوردي طائر نحام يتسكع مثل ظل فوق سطح الماء…..» (ص44). إنها الحالة نفسها التي نظرت لها السوريالية مثلا . و هذا الإحساس يتقاطع مع قول أدونيس: « إني لا أبحث عن الواقع الآخر، لكن أغيب خارج الواقع في الخيال والحلم والرؤيا. إنني استعين بالخيال والحلم والرؤيا لكي أعانق وأخفي الآخر، ولا أعانقه إلا بهاجس تغيير الواقع وتغيير الحياة «.
نخلص مما سبق أن الكتابة الشعرية لصاحب ديوان «طرق بسيطة لفهم العالم « تقوم بعملية انتقاء خصائص القصيدة النثرية وتفكيكها ، مع تركيب ما تم انتقاؤه في قصيدة النثر العربية سواء عند الشعراء المغاربة أو المشارقة .
وبهذا نجد الكتابة عند علي أزحاف تمر بمرحلة التوجس من أجل التعبير لمراحل تطور الإبداع وتنويع طرق البوح ، فالصورة الشعرية هي قوام الشعر، ولا تصور للشعر من دون صورة، فتكون كل ذلك أو بعضه، وأن تنسل منه بعض التفاصيل فيرتد للإستدراك في لحظة أخرى ، ولكنها تبقى جديرة بكل استطراد يوحي بمتعة قول الشعر .. لذلك تبدأ الدلالة بالانكشاف من الكلمات المفتاحية في فهم عالم الشعر عن علي أزحاف ، وقد تظهر هذه الآلية في أكثر مناطق الدلالة احتجاجاً على نحو بالغ الدقة والتعقيد. ففي بدء قصيدة «طبيعة ميتة ص 73» صورة غريبة ترسم المجرد بالمحسوس، ويضيع القارئ معها لكن لا تضيع فيها الدلالة. القارئ يخرج من الضياع كلما تقدم إلى الأمام، حيث التفاحة والطاولة والنافذة والشارع والخريطة والمدينة كدلالات تضيء عتمة الفضاء. والخلاصة المستفادة من ذلك هي أن إيقاع القصيدة المدروسة هو إيقاع الانتشار، فتنشأ كل صورة جديدة دلالة جديدة، وتنتشر الدلالة في فضاء مسترسل يبلغ منتهاه في محاكاة ساخرة. والخلفية التي ينطلق منها هي اعتبار القصيدة سفر في الزمن ، كلّ ثابت فيه يشدّ إلى متحوله ، وكل اندفاعة إلى الأمام هي انعطافة إلى الوراء؛ ، تلك هي الغواية المفضلة عند الشاعر علي أزحاف التي تبدأ باحتضان غواية الكتابة ومتعة التشظي ، وانطلاقاً من هذا الفهم التمييزي يرى بأن الكناية عند علي أزحاف شبيهة بقصيدة النثر عند أنسي الحاج.
أخيراً، تظهر قصيدة النثر عند علي أزحاف إنها نثر وشعر في آن واحد، وهي ليست القصيدة التي تراهن على النثر وحده ، ولا القصيدة التي تمتح من النثر بذاته، إنما القصيدة التي ترتب حبات عقدها، حتى يكون عقدها ناصعا مرصعا. إنها القصيدة التي تنثر عناصرها كما اليد تنثر الحبّ في الأرض، لا كما ينتظم «القصيد» في خيط متداول ومتعارف عليه.


الكاتب : عبد الغني السلماني

  

بتاريخ : 10/11/2019