دعوات قضائية ومذكّرات توقيف دولية، بالإضافة إلى اتّهامات بالتخدير والاغتصاب، تُجاورها حملات تشويه ومُحاولات لوقف عرض أفلامه، وكذلك عزله. ولكنّه، قبل ذلك، مخرج سينمائي، وصاحب «طفل روزماري»، و»عازف البيانو»، و»الحيّ الصينيّ». هل هناك ما يُمكن أن نضيفه إلى سيرة رومان بولانسكي التي تطغى عليها الاضطّرابات والاتّهامات نتيجة علاقة جنسية أقامها مع فتاة قاصر (13 عامًا) أكّد أنّها حدثت دون اغتصاب؟
هذه السيرة التي توازي السيرة الشخصية للسينمائي البولندي – الفرنسي، كانت كفيلةً لدفعه باتّجاه اقتفاء أثر ألفريد دريفوس، وكذلك تحديد وإحكام أسلوب سرده لقصّة الضابط اليهودي الفرنسي الذي واجه تهمة الخيانة العظمى. والقصد أنّ الشريط الجديد لبولانسكي والمعنون بـ»إنّي أتّهم»، يعدّ، في جزءٍ منه، ضفّة موازية لقصّته المنطوية على قدرٍ كبير من الاضطّرابات نتيجة اتّهامات الاغتصاب والاعتداء الجنسي والظلم الذي لحق به، وذلك وفق تعبيره: «قصّة الفيلم تشابه لحظات مررت بها، أستطيع أن أرى التصميم نفسه على انكار الحقائق وإدانتي بأشياء لم أقم بها». بينما تقول زوجته: «لقد عانى المضايقات نفسها التي تعرّض لها دريفوس».
إشارات وتلميحات صريحة تربط قصّة بولانسكي بقصّة الضابط الفرنسي لجهة المضمون والجوهر. وتدحض كذلك، في الوقت نفسه، المقولات التي تفصل بين الحكايتين. ولكنّ هذا، في المقابل، لا يعني أنّ المخرج البولندي قدّ قدّم فيلمًا يأتي خدمةً لما هو شخصي أو لتحقيق غاياتٍ فردية. ذلك أنّ بولانسكي ترك للمشاهد حرّية رؤية الشريط من الزاوية أو المنظور الذي يريده. لا سيما وأنّنا إزاء شريط بعناوين عريضة كثيرة، تُختزل بـ «الخيانة العظمى» التي يُمكن إسقاطها على المُتَّهم والمُتّْهِمين. وأسفلها مباشرةً، تأتي عناوين فرعية تكاد أن تكون حكايات جانبية مستقلّة إلى حدٍّ ما عن الحكاية الرئيسية، كحرّية الصحافة، وحدود تدخّل أجهزة الدولة العسكرية والأمنية في خصوصيات المواطنين وديمقراطية الدولة التي ينخر الفساد مؤسّساتها. وبدرجة أدنى، تأتي معاداة السامية كجزءٍ من سياق الحكاية الزمني فقط، وليس باعتبارها حكاية مستقلّة.
عند هذا الحدّ، يكون ما يرويه «إنّي أتّهم» قد بات واضحًا، وكذا الأساسات والعناصر التي بُني عليها أيضًا. فالشريط يروي حكاية ألفريد دريفوس التي جرت أواخر القرن التاسع عشر، ويُحاول الإحاطة بتفاصيل اتّهامه، وفقًا لأدلّة ضعيفة، بالعمالة للإمبراطورية الألمانية التي جاء في التقرير الذي بُني عليه الاتّهام، بأنّه مدّ أجهزتها الاستخباراتية بمعلومات عسكرية سرّية وحسّاسة. هكذا، سنرى دريفوس (لوي غاريل) في افتتاحية الشريط يُجرّد من رتبته العسكرية على مرأى من الضبّاط والجنود، تمهيدًا لنفيه إلى جزيرة (الشيطان)، حيث سيغيب هناك فنعرف أنّ بولانسكي اختار أن يروي الحكاية بعيدًا عن الضابط اليهودي.
المخرج البولندي الذي قدّم «البوابة التاسعة»، بنى حكاية تُوازي حكاية ألفريد دريفوس، بل إن حكاية الأخير تُروى عبرها، أي عبر حكاية الكولونيل جورج بيكار (جان دوجاردان) الذي نراه في بداية الشريط يتجوّل في أروقةٍ مبنى جهاز الاستخبارات الفرنسية الذي تولّى منصب رئاسته توًّا. على الفور، سيصطدم بيكار برائحة عفونة كريهة مصدرها المجارير التي شيّد مبنى الاستخبارات قربها، غير أنّ هذه الرائحة جاءت كإحالة مباشرة إلى حال المؤسّسة التي ينخرها الفساد، ويجري فيها تلفيق الاتّهامات كيفما اتّفق.
هكذا، سيضع بيكار نصب عينه نفض الغبار عن المؤسّسة، وإعادة هيكلتها، وكذا كشف حقيقة الضابط اليهودي الذي سيقدّم الكولونيل بعد فترةٍ قصيرة أدلّة تُبرّئ دريفوس، وتكشف المسؤول عن تسريب المعلومات العسكرية، دون فائدة فأدلّة بيكار رفضت، وكذلك طلبه بأن يطلق سراح دريفوس، دون أن تنتهي الأمور عند هذا الحدّ، ذلك أنّ قيادة الجيش الفرنسيّ وجّهت أوامر لبيكار بنسيان قضية ضابط المدفعية التي ستضرّ بسمعة الجيش، وتثير الراي العام ضدّه، ولكنّ الكولونيل لم يلتزم بذلك، وإنّما سعى خلف الحقيقة التي وضعته في مواجهة مؤسّسات الدولة العسكرية والأمنية والقضائية، ستنتهي، في مرحلتها الأولى، بتجريده من رتبته العسكرية، وسجنه، وتلويث سمعته، وإثارة الراي العام ضدّه. أمّا في مرحلته الثانية والأخيرة، فتنتهي بإعادة الأمور إلى نصابها، وإعلان براءة دريفوس، وعودته برفقة بيكار إلى صفوف الجيش.
في «إنّي أتّهم»، يبدو بولانسكي وكأنّه يودّ التوحّد مع بطله، أي دريفوس، لا سيما وأنّ الشريط، في المقام الأول، أشار إلى انتقال البولندي من العام إلى الخاص، وذلك عبر أسلوب يميل إلى الذاتية، بل الذاتية الشديدة.
بصمة بولانسكي بدورها كانت حاضرةً في الشريط الكلاسيكي الذي تفوّق على ما سبقه، وأظهر صاحبه في أوج تجلّياته، لا سيما لجهة العناية بالمشاهد التي تُحيل إلى فكرة العدالة والإنصاف من جهة، وإدانة أجهزة الدولة من جهةٍ أخرى. وبمعنى آخر، إنّه فيلم عن وقوف الفرد في وجه المؤسّسة التي ينتمي إليها، حينما يتعلّق الأمر بالحقيقة.