ما هو المعنى القائم خلف اختيار عنوان «الثِّقاف(ة)» لهذا المعرض؟ وهل تحتاج اللوحات إلى عنوان يكون بمثابة عتبة تسمح بالولوج إليه؟ أليست الكلمات غير مُرحب بها في كلّ معرض للوحات مادامت الأعين التي تحسن الرؤية هي الضيف المُرحّب به؟
تكون هذه الأسئلة مشروعة إن كانت العين هي التي ترى، أما إذا كانت العين لا ترى إلا ما كان قابلا للرؤية، فإن مساحة «المرئي» وتخوم «اللامرئي» هما الأمر الملح الذي يجعل الكلام، ربما، هو عتبة النظرة وشعيرتها.
اللوحة أمر مرئي يوجد وجها لوجه أمام عين ترى. أما الكلام فهو الخطاب الذي يوجَّه إلى إنسان آخر؛ من هنا يكون الكلام عن الثِّقاف(ة) أمرًا آخر غير تصويره بحيث إن الكلام يعلن عن حضور الإنسان الآخر والاعتراف بمساحته التي لا تقبل الاختزال. الدعوة إلى رؤية عالم «الثِّقاف(ة)» هي في الآن نفسه دعوة إلى الكلام عنه في العلن، وإلى تحويله من ذاك الـ «لا مرئي» إلى الـ «مرئي»، والانعطاف به من «اللامحكي» إلى «المحكي». «العلني» و»المرئي» و»المحكي» هي دروب الاعتراف بالإنساني بوصفه مساحة يجوبها الكلام الذي هو نسيج الثقافة.
تتحرك الثِّقاف(ة) على تخوم «الثَّقافة» وتلغيها؛ فإذا كانت الثَّقافة ترسم على الجسد قواعد المباح والممنوع وكأنها أبوة روحية فإن الثِّقاف(ة) هي المنع نفسه. فالأولى هي الوعد المقدَّم للجسد لكي يرتقي إلى عالم الروح، أما الثانية فهي حياة بدون أية وعود مادامت تتملك الجسد وتغلق عليه الأبواب كلها عندما تمسك به من فرجه؛ أي من النقطة الوحيدة التي تفتحه على المستقبل (الولادة) وتسجن فيه اللذة. الثِّقاف(ة) إذن هي سلطان العقم. وهي عبارة عن ثَّقافة منكسرة (ثقافة) وذات لثغة، وهي هذا الشّعّ الذي سقط فيه الجسد دون أي وعد بالوقوف، فيه ينهار الكلام ويتحول إلى رعب ماحقٍ ومدمّر.
هكذا؛ يقترح علينا إيلان مشاهدة هذا الدّمار داخل ثيمة «الثقاف(ة)» من خلال «شخوصٍ صباغية» جديدة على منجزه الصباغي؛ فهو هنا يرسم مجمرا معلقا بين الألوان الانسيابية وفوقه نهد يتيم، وقفلا يمدّ ذيله وكأنه تلك الأفعى التي أغوت حواء ذات «زمن» في السماء، (أو هي بالأحرى الرغبة الجامحة التي تغوي الناس ذات «زمن» في الأرض)، وحذوة حصان وقد أمسكت بها الألوان من الجهات كلّها. إنها شخوص تحل محل تلك التي كان يرسمها، دون أن تعوّض الثيمة التي يدور في فلكها وهي: الجسد المحاصر. لقد بات اللون متحكما فيه، كما أن إيلان يستشعر هنا أهمية التناغم داخل اللوحة؛ تناغمٌ بين الفراغ والامتلاء يسمح للعين برؤية البياضات والتخوم لكي تقبض على تلك الرموز السحرية (مجمر، حذوة حصان، قفل…) بعد أن تمّ تعليقها في الفراغ والإمساك بها بقوة الألوان.
يبدو أن معرض الثِّقاف(ة) يجعلنا نتحرك في نطاق الفكرة التي ترى أن الحصار يأتي لكي يُسيِّج الجسد وأن القيود تفاجئ الإنسان وهو في غفلة من أمره. لكن ماذا لو كانت القيود تنبع من حميمية هذا الإنسان ومن داخله؟ ماذا لو كان الإنسان هو هذا الحصار نفسه؟ هذا، ربما، هو السؤال الذي ينبع من منطق الكلام، الذي يقال بين الناس في حضرة اللوحات الملهِمات، التي تنتظر مجيئنا إليها يوم الأربعاء 12 فبراير 2020 بداية من السابعة مساءً بدار الشريفة بالمدينة الحمراء.