التظاهرة الجماهيرية الكبرى التي شهدتها العاصمة (يوم الأحد 09 فبراير 2020)، رفضا «لصفقة القرن»، وتضامنا مع حقوق الشعب الفلسطيني الكاملة في وطنه، زادت من إقتناعي بأن معظم الشعب المغربي، وخاصة الكادحون منه والفقراء، وهم الأغلبية الكبيرة من ما نسميه «بالمجتمع العميق»، هم الدرع الواقي والرافض لأي تطبيع مع الكيان الصهيوني المغتصِب. هذه حالتنا في المغرب، وهي نفس الحالة في كل البقاع العربية الأخرى، بما فيها تلك التي أقامت اتفاقيات سلام رسمية منذ عقود خلت. ومع ذلك، لم تتسرب أوهام التطبيع إلى شعوبها التي ظلت ماسكة بأولوية الحق الفلسطيني المطلق على أرضه، وهي تقاسمه السراء والضراء، كيفما بلغت الظروف الاجتماعية القاسية التي تشغل حياتها اليومية. فأين الخلل إذن؟
من يتأمل في الخلفيات الاجتماعية والسياسية لمجريات الصراع العربي الإسرائيلي خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي إلى اليوم، قد لا يخالفني التصور بأن الجديد فيه، فضلا عن كل جبهات الصراع التقليدية، بإيجابياتها وسلبياتها، أنه إنتقل، أكثر فأكثر، إلى الجبهة الثقافية، والتي كانت المبادئ الجمعية التي تقوم عليها بمثابة الجدار الواقي الصلب في مواجهة كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني. وعلى هذا المستوى، فمن الملاحظ أن الدعوات «التنظيرية» للقبول بالتطبيع قد تضافرت صيحاتها، وازدادت جرأتها، مع تدفق سيول مفردات «أيديولوجية العولمة» في الثقافة العامة للنخب السائدة، أكانت من الحواشي الاجتماعية لذات الأنظمة القائمة، أو منْ يدورون خارجها وفي مجالها المغناطيسي. وتضافرت هذه الظاهرة، أيضا، مع تحولين كبيرين في أشكال الصراع وموازين قواه: أولهما، انفراد الولايات المتحدة (حامية إسرائيل) بالسطوة على القرار الدولي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتوابعه، ثم بعد تعاظم دور الحروب الناعمة الاختراقية ل «الثقافة والإعلام والمجتمع المدني» في الصراعات الدولية ولصالح الأكثر نفوذا فيها. وثانيهما، تراكب العاملين التاليين في الوضع العربي: من جهة، لإمساك الأنظمة الرجعية بالنفوذ القوي على النظام العربي الرسمي، بعد تكبيل مصر باتفاقية كمبد دافيد وارتداد نظامها لعقود تالية. ومن جهة ثانية، وقوع الثورة الفلسطينية في خضم تلك التحولات الدولية والعربية السابقة في مآزق «الوضع الدفاعي الأدنى»، زادت منه نمو تناقضاتها الذاتية الداخلية، والعائدة هي الأخرى لكيفية مواجهة التحولات الكبرى السابقة.
فلا عجب، في هذا الوضع التقهقري العام، أن يبدو لي المشهد الثقافي الأيديولوجي، لاختلاط المفاهيم والمبادئ فيه، وكأننا في جلبة ضوضاء حفل تنكري عام، ترفع فيه الأيادي «أنخاب التحديث»، ولا ندري في تنكره وضوضائه «لمصلحة ولصحة منْ تُرفع»؟! ولهذا،، لربما آن الأوان لفض هذا الحفل التنكري، وليختار كل سبيله في واضحة النهار.
وحينئذ، لا يساورني شك في، أن الجبهة الثقافية، وعلى الرغم من تزايد المطبعين في أوساط النخبة الحاكمة والتابعة، لا تزال تحتفظ على مقوماتها الجماعية المبدئية، الوطنية والقومية في آن، ولا تزال هي الأقوى والأكثر نفوذا شعبيا، شريطة أن يقوم المثقفون بواجبهم الفكري في تعرية جميع الأقنعة الأيديولوجية التي يوزعها دعاة التطبيع.
عنوان هذه المقالة مأخوذ من نفس عنوان كتاب المناضل والمثقف والصحفي الفلسطيني «بلال الحسن». وفيه يتعرض بقراءة نقدية في غاية الدقة السياسية والنباهة الفكرية للأضاليل الأيديولوجية التي يحاول دعاتها تسويغ التطبيع مع الكيان الصهيوني والاستسلام له. وكعادتي، لا أتردد في نقل بعض الفقرات من صاحبها، كما هي، حتى ولو كانت لا تتناسب مع حجم المقالة، لكي يكون القارئ على دراية أفضل بالغاية المقصودة بدقة.
يقول بلال الحسن:
لقد اخترت أن أناقش نوعا خاصا من الأفكار، يبدو في ظاهره ثوريا راديكاليا وحداثيا، ولكنه في العمق مغرق في الرجعية وفي الدعوة لتدمير الذات. فكر يجاهد لكي يصوغ نظرية تبرز الانحناء أمام كل مستعمر، وتعتبر خطيئة المستعمِر نابعة من ذاتنا نحن، نحن الذين يجب أن نتبدل لكي تصبح نظرتنا للمستعمِر نظرة إيجابية.
لقد اعتاد المستعمرون أن يرسلوا بعثاتهم الاستطلاعية (والاستشراقية) لدراسة البلدان التي ينوون غزوها واستعمارها، أما في عصر العولمة، فلم تعد هناك حاجة لإرسال البعثات، وانتظار نتائجها، فثمة نوع من المثقفين راغب في أداء هذا الدور من الداخل، وصياغته بإتقان فكري. هذا لنوع من المثقفين، لا يعمل من أجل تطوير الثقافة العربية، إنه يعمل من أجل هدمها.
المقالة الحالية ليست تعريفا ولا تلخيصا لما ورد في الكتاب من تفاصيل سياسية ودقة فكرية تنوء على حملها، ولكنها تذهب بعموميتها على نفس الطريق ولنفس الغاية. وقد أعود لاستشهاد منها إذا ما دعت الضرورة التوضيحية لذلك. أما ما أروم إليه تحديدا، فليس أكثر من تنبيه القارئ إلى العنوانين العريضين الذين تدور فيهما رحى الحرب الثقافية من قبل دعاة التطبيع والاستسلام.
(1)
أولا: مراجعة اللاوطنية للتاريخ:
من أولى استهدافات «التطبيع الثقافي» الذاكرة التاريخية الوطنية لاختراقها، وإحداث ثقوب «الزهايمر» فيها، ومن ذلك، أن المستقبل السعيد يحتاج إلى «نسيان الألم» والتخلي عن «التمسك بالماضي».وتشريح هؤلاء للذاكرة الوطنية التاريخية يبين في زعمهم أمرين متلازمين: من جهة: لم تكن النضالات الوطنية لشعوب المنطقة، ومنها الشعب الفلسطيني، وفي أغلب المراحل التي مرت بها هذه النضالات، صائبة، وعلى سكة الاتجاه التاريخي الصحيح. ولأنها كانت في أغلبها تعبيرا عن مجافاتها الدائمة للعقلية الحداثية، والتي حملها إليها الاستعمار في الماضي، وتحملها اليوم العولمة (الأمريكية) في الحاضر. ومن جهة ثانية، تكون الخلاصة المبهرة لهذا التشريح التضليلي للذاكرة الوطنية التاريخية، أن الحركة الصهيونية نجحت في تحقيق مآربها، لأنها أدركت، وتمثلت الحداثة، في تحالفها مع القوى الاستعمارية الحاملة لها، في الماضي والحاضر، بينما العرب والفلسطينيون راكموا الفشل تلو الآخر، لأنهم لم يدركوا هذه الحقيقة التي كان ولا يزال يحبل بها مسار التاريخ الموضوعي لا المتوهَّم. ولهذا، وجب تنقية الذاكرة التاريخية الجمعية من حمولتها الوطنية الموروثة السابقة، وتهيئتها ثقافيا لترى، وتتمثل، عبر التطبيع والقبول بالمطالب الإسرائيلية – الأمريكية المفروضة، الجوهر الحداثي الكامن فيها.
وفي هذا المنظور للحداثة وللتاريخ، يبدو الشعب الفلسطيني، ومعه بقية الشعوب العربية، المتخلفون عقليا، هم المسؤولون أولا وأخيرا عن ما حل بهم، بينما تغدو المشاريع الاستعمارية، والأمريكية – الإسرائيلية في الحاضر، فرصة تاريخية لنجاتهم من التأخر الذي أزمنوا فيه.
قد لا يصدق عاقل هذه الخلاصة التي تقلب كل الحقائق والموازين، لكنها واردة بصيغ مختلفة، أو بنفس الروح، لدى النماذج التي تناولها بالنقد بلال الحسن. وإليكم واحدة منها:
«علمنا التاريخ أن الشرق الأوسط لم تستوطنه بعد العقلانية السياسية التي تنطلق من الحساب المنطقي للأرباح والخسائر، بل ما زال يتحكم فيه العُصاب، بما هو رغبات جامعة وتخييلات هاذية وغرائز موت، لا تعرف العقل ولا تعترف به» مأتى هذا الهجاء التعميمي الإطلاقي للشرق ليس لهدف فلسفي، وإنما له هدف سياسي مباشر، جاء بعد فشل مفاوضات كامبد دافيد الثانية برعاية «بيل كلينتون» وبعد رفض الزعيم عرفات الخضوع لإملاءاتها!
(2)
أما ما أريد التشديد عليه في هذا السياق، فهو التالي : تعود بنا تلك المراجعة التاريخية الناقضة، وليس الناقدة، إلى زمن مضى، كانت «المركزية الأوروبية» هي السائدة في النظر إلى التاريخ البشري العالمي، حيث صُنفت باقي الشعوب الأخرى، شعوبا «بلا تاريخ»، لافتقارها لنفس المقومات التاريخية للتقدم، والتي أوصلت «أوروبا» لأعلى السلم الحضاري. ولهذا، ليس بقدرة هذه الشعوب أن تتقدم، إلا إذا زُج بها في هذه الحضارة من قبل «أوروبا» الرائدة. وقد أعطى هذا التصور المبرر الأيديولوجي – الأخلاقي للاحتلال والاستعمار بوجه عام. وليس من مسعاي هنا أن أبين في ما إذا كان الاستعمار ضرورة لابد منها لتقدم الشعوب المحتلة، فالمسألة تعددت فيها وجهات النظر، وكذا تعددت الإمكانات المتفاوتة لتواريخ الشعوب المختلفة، لكن الحصيلة المؤكدة، أن الاستعمار إن أحدث شيئا من التحديث، بحسب مصالحه الخاصة، فهو أحدث أيضا اختلالات فكرية وبنيوية عقدت إمكانات تجذر التحديث وشموله.
ومن هذه الزاوية تحديدا، يرد بعضنا الفضل في انطلاق التحديث إلى الصدمة الاستعمارية، إما في جوانبها التقنية (دخول الطباعة وإقامة بعض البنيات التحتية) وإما في جوانبها الاقتصادية (ظهور بعض الصناعات وبروز فئات اجتماعية حديثة) وإما في جوانبها المؤسساتية (التنظيم الإداري والحكومي، وإدخال أساليب تحديثية على الجيوش). ولا ننسى بطبيعة الحال صدمة وعي النخبة، إما بإرسال البعثات للاطلاع على مظاهر التقدم في الغرب، وإما لكيٍّ حارق لوعيها وجعلها تتساءل: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟ ومن تم محاولات اقتباس ما عنده وما في استطاعتها من عناصر التقدم.
ما يهمني في هذا التذكير الذي يعرفه الجميع، ليس جرد أحواله التاريخية العينية، إن كان نقلا واستباقيا من الدولة ومن النخبة، أو إن كان تحت الاحتلال بأنواعه هو الآخر. ما يهمني في جميعها، أن المقاومات الشعبية للاحتلال حتى تلك التي هُزمت منها، وكيفما كانت قياداتها الاجتماعية، واتساعها، وتلاوين أيديولوجياتها إذا ما أخذت بعدا وطنيا، لا تقل أهمية عن الأدوار التحديثية لكل تلك العناصر مجتمعة. وذلك، لأنها، من حيث وظيفتها التاريخية،، كانت تعبر عن صيرورة تشكل الوعي الوطني، بتخطيها وافتراق وعيها، للبنيات القبائلية والعشائرية والمذهبية والطائفية والإثنية الراكدة، نحو الكيانية الوطنية المستقلة. وهو تقدم كبير في صيرورة التحديث حتى ولو كانت في جوانب ثقافية عديدة دفاعية وانكفائية تقليدية.
وفي كل الماضي، كان هناك دائما من يدافع عن التماهي مع المستعمر، لمصلحة انتهازية أو لانبهار مستلب بقوة وتفوق العدو، أو لعشق مَّا في حداثته، لكن جميع هؤلاء ترمي بهم الذاكرة الوطنية إلى سلة مهملاتها، بينما لا تحتفظ في سعيها للتقدم إلا بمن قاوموا الاستعمار وساهموا في بناء الكيان الوطني المستقل. ولا أحتاج لضرب أمثلة عديدة من مقاومة الشعب الفلسطيني مرورا بمجموع المقاومات والرموز التي قدمتها باقي الشعوب من المحيط إلى الخليج.
وفي صلة بهذه المسألة، تبدو فكرة التحديث والحداثة عند هذا الرهط من دعاة التطبيع والاستسلام، وبما هي المرجعية الأيديولوجية الأساس لديهم، ليست نتاجا مجتمعيا عضويا إبداعيا ومتفاعلا مع إمكانات المثاقفة المتاحة في العصر، وإنما في ما يتصدق به المحتل لمن هم تحت احتلاله، في أي محطة مباغثة يرضى فيها بتقديم بعض التنازلات. وكيفما كان حجمها، لا يجوز معارضتها، لأنها تحتوي في ذاتها على كل ما يحتاجه الشعب المقهور، وفي دفعة واحدة، من شمول التحديث والحداثة الغائبين عنه. ولأن هذا التصور الفاضح الطوباوية-الرجعية يقوم بمراجعات ناقضة للتاريخ النضالي العربي عامة، وللصراع العربي – الفلسطيني – الإسرائيلي خصوصا، وعلى قاعدة أننا شعوب متأخرة عقليا عن استلهام أنواع الحداثة، فليس أمامنا من طريق آخر للتقدم، سوى التماهي مع المستعمر والقبول بما يرضيه. فالعرب والفلسطينيون لا يستطيعون الانخراط في التاريخ المعاصر إلا إذا رضعوا الحداثة من ثدي إسرائيل وأمريكا بما يقدمان لهم من مشاريع كفيلة بإخراجهم حتما من انحطاطهم العقلي وحتى العُصابي الذي هم فيه. لكن لماذا يكون امتلاكنا لنصيب الحداثة هو حصرا من نصيب إسرائيل وأمريكا، ولا يكون بالتعاون مع دول أخرى تساند قضايانا ونتقاسم معها على الأقل بعض الأهداف الكونية في النماء والحرية والعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها؟ وماذا قدمت إسرائيل وأمريكا للدول التي عقدت اتفاقيات سلام، أو لها علاقات تطبيعية غير رسمية مع إسرائيل؟ وهل الأيديولوجية الصهيونية الحاكمة في إسرائيل تسعى إلى السلام أم إلى الهيمنة وتصفية القضية الفلسطينية جذريا؟ هذه الأسئلة وأمثالها، يتم التغاضي عنها، لأن منظورهم للتحديث والحداثة الاستعلائي والطوباوي الرجعي يلفظها ولا يتسع لها أصلا. ولعل ما جاء على لسان أحدهم يكشف إلى أي حد من التهور الأيديولوجي تصله هذه الحداثة المزعومة:» إن مواطن عصر العولمة مواطن عالمي، يستبدل وطنه كما يستبدل حذاءه !» قيلت هذه الموعظة السحرية لتبرير إسقاط حق العودة للفلسطينيين إلى بلدهم، تماما كما هو المشروع الإسرائيلي الأمريكي، لاستحالة هذا الحق (في نظرهم) ولخطورته على الكيان الصهيوني الرافض له بالمطلق. وإذا تركنا جانبا وتجاوزا التوظيف الخاص لتلك الموعظة، فإن صيغتها «النظرية» تدلنا على مكانة الوطن في هذا النوع من «الفكر»، والسؤال، هل يمكن أن نبني على هذه الموعظة – القاعدة المطلقة استراتيجية إنمائية على أي مستوى وفي أي بلد؟! إنها «العدمية الوطنية»في أعلى درجاتها تهورا وتبعية. فهل نستغرب بعدها لماذا فشلت «ثورات» ما سمي بالربيع التي كان لقاداتها نفس التفكير، ونفس المنزلة الرخيصة للوطن، فباعته، بغية السلطة بأي ثمن، بتحالفاتها المريبة مع قوى رجعية داخلية وخارجية غير آبهة ولا حريصة عليه. فكان لضآلة مفهوم الوطنية لديها ولحساب التحديث الديمقراطي بأي ثمن وبأي تحالف، وهو ليس أكثر من طلاء أيديولوجي براق، أن أضاعت الوطن و»الديمقراطية» معا، وأضاعت أو كادت الكيان الوطني نفسه!
(3)
ثانيا: نقض العروبة والدعوة للتخلص منها:
بموازاة مع نقض التاريخ، وخاصة ما يحتويه من مقاومات شعبية لكل أشكال الاحتلال والتبعية، يأتي دور نقض العروبة والدعوة إلى التخلص منها. ولعلنا نتذكر أن هزيمة 67 بمقدار ما كانت دافعا لمراجعة الفكر القومي في تجاربه وجميع قضاياه، كانت فرصة سانحة استثمرتها الأنظمة الرجعية وكل القوى المعادية للتجربة الناصرية خصوصا، وللبعد القومي عامة. وفي هجمة حقودة لا سابقة لها، جرى الخلط دائما بين المكانة التاريخية للمشروع القومي التقدمي الناصري وبين نكساته وقصور نظامه السياسي. وفي هذا المخاض، يمكن القول، أن الفكر القومي التقدمي لم يترك قضية من قضاياه إلا وتناولها بالمراجعة النقدية، سيما منها مواطن ضعفه القديمة، وأعني بها المسألتين المركزيتين المتلازمتين، إعادة بناء منظوره القومي الوحدوي على ضوء استيعابه لمركزية المسألة الديمقراطية كوسيلة وغاية في نضاله الوطني من جهة، ومن جهة ثانية، في تصوره للبناء الوحدوي التدريجي بين الكيانات العربية (ودولها) القائمة، سواء منها تلك التي لها جذور تاريخية أو تلك التي نشأت خلال التجربة الاستعمارية. وهذا ما جعل مفهوم بناء «الدولة الوطنية» يأخذ نصابه الشرعي ودوره العقلاني في بناء الصرح القومي نفسه.
ولا يسعفنا المجال هنا للإحاطة بكافة الإشكالات النظرية التي واجهها الفكر القومي في هذه المراجعة، لكي نوضح المساحة المعرفية والأيديولوجية التي خاض فيها الفكر العربي التقدمي بوجه عام، والتي كان من بينها بالضرورة المسألة القومية بقضاياها المتعددة.
لكن يمكنننا بلا مبالغة الادعاء بأن الفكرة القومية قد تخلصت في مغسل تبنيها للديمقراطية «وسيلة وغاية» من الكثير من عيوبها الرومانسية وميولات بعضها إلى الشمولية. ومع التشديد على أن مجال الفكر هو بطبعه مجال متفاوت ومتعدد التلاوين وبلا ضفاف. وصيرورة الواقع لا تتطور على نفس المنوال وبنفس الوتيرة وكأنها استنساخ لما يجري في الفكر. فقد تسير الصيرورة لمرحلة مَّا في عكس الاتجاه الذي يصبو إليه الفكر. وهذا ما حصل بالضبط للواقع العربي بعد هزيمة 67، وبعد خروج مصر باتفاقية كمد دافيد من الصراع العربي الإسرائيلي وارتداد نظامها السياسي على المشروع الناصري، وبعد حربين خليجيتين أعقبهما احتلال العراق. ثم اخيرا، ما حمله ما سمي بالربيع العربي من تدمير لكيانات عربية مفصلية في ليبيا وسوريا واليمن (والسودان سابقا). فهل تعني هذه الانهيارات المتتالية انهياراً مطلقا للأمة العربية ولفكرتها القومية؟!
(4)
قبل التطرق لهذا السؤال المفصلي، أرى من الضروري التنبيه لخصوصية الفكرة القومية في الأقطار المغاربية، وفي المغرب تحديدا. إذ قد نلاحظ، في التداول العام، نفوراً من بعض الشرائح المغاربية من تعبير القومية، لما صار يدل عليه في الثقافة الغربية المعاصرة من حمولات عنصرية، بعد أن تمكن الغرب من إنجاز دوله القومية في قرون سابقة. ومع ذلك يبقى التمييز عندنا بين الوطنية والقومية هو المعمول به أساسا. والأهم من هذا التمييز اللغوي، أن المغاربة لم ينغمسوا كثيرا في التنظير للمسألة القومية، وإنما تعاملوا مع قضاياها الميدانية بأفق تضامني ووحدوي. ودائما بروح سياسية عملية أساسا. ويعود هذا بلا شك إلى أن الفكرة القومية ظهرت أولا في الشرق العربي وفي مناهضة الاحتلال العثماني أساساً، والتنظير لها جاء تلبية لحاجات مجتمعية تتسم بالتعددية المذهبية والطائفية ولخضوعها للتجزئة الاستعمارية، وأعني بذلك بلدان الشام تحديدا. والمغرب لم يخضع للاحتلال العثماني وموحد دينيا ومذهبيا. كما أن وضعه الجيوبوليتيكي يجعله بعيدا إلى حد ما عن المفاعيل المباشرة الساخنة للصراع العربي الإسرائيلي واستقطاباته الدولية الكثيفة والحادة كما هي في الشرق العربي.
بعد هذا التنبيه السريع، والذي لا يعفي المغاربة من مسؤولياتهم الفكرية والسياسية القومية، أعود إلى سؤالنا المفصلي: هل كان الانهيار المتتالي انهيارا مطلقا للأمة العربية ولفكرة القومية لديها؟
ليس من العسير الإجابة على هذا السؤال حتى في عز هذا الانهيار. فالشيء المؤكد لدي، أن العروبة بما هي، لغة «عالمة» سائدة، وثقافة وإرث حضاري معاش، وماض مشترك، وبما هي، مطامح مستقبلية في مواجهة نفس التحديات المشتركة، واتصال جغرافي ييسر هذا التفاعل ويستولد ضرورات الأمن القومي المشترك… هذه العروبة «الوجودية» إن صح التعبير، باقية وستبقى فاعلة حتى ولو لم يتحقق الاتحاد العربي أو تأخر لزمن غير منظور. أما العروبة، بما هي إرادة سياسية و أيديولوجيا للوحدة بكل أشكالها من أجل التقدم والتحرر والمشاركة الكاملة الفاعلة في الحضارة الإنسانية المعاصرة، فهذه العروبة، التي أفضل أن اسميها بالقومية التقدمية الديمقراطية، فهي مستوى آخر، قد يعلو وقد يتراجع تبعا لتطور شروط الصراع العامة، وكذلك الخاصة بكل بلد ودولة. لكنها في الأرجح، لا يمكنها إلا تنمو وتتقدم بحكم الضرورات التي لا مناص منها لكل بلد، ومنها أن العصر هو عصر التكتلات الكبرى، وأن الدولة القطرية ما عادت نفسها قادرة على تحمل مشاكل التنمية المستعصية إلا بانخراطها في الصيرورة الاتحادية. وبهذا المعنى، فإن الانهيار المطلق لا يمكن تصوره إلا بفناء تلك المقومات العروبية «الوجودية» التي ألمحت إليها، وهذا من «الممكن المستحيل» لمصير شعوب لها كل ذاك الماضي الحضاري ولها من المقومات المادية والمعنوية ما يجعلها قادرة على الصمود والتقدم. وأي رهان آخر، هو حتما رهان رجعي لا يفضي إلا إلى الانتحار، والإنسان السوي العاقل لا يراهن ولا يختار الانتحار !
ليس بمقدور دعاة «التخلص من العروبة» أن يغيروا من هذا الأساس الموضوعي «الوجودي» مهما فعلوا، فلقد سبقهم الاستعمار إلى هذه المحاولة، وخاصة في الجزائر على سبيل المثال وخلال 130 سنة من الاحتلال استهدف الفرنسنة الكاملة وتذويب «الهوية» العربية الجزائرية، فاندحر الاستعمار، وبقيت الهوية الجزائرية العربية قوية وحية. ومن هذه الزاوية إذن، تكون معركة دعاة «التخلص من العروبة « معركة خاسرة تاريخيا. وكل ما في استطاعتهم أن يعطلوا، ويشوشوا، ويربكوا، نمو النزوعات والميولات القومية التقدمية الديمقراطية التي يفرزها ويستوجبها هذا «الوجود القومي» في عصر التكتلات الكبرى، كما أسلفت.
ليس بوسع هؤلاء، مهما «نظروا» أن ينتجوا فعلا «نظرية اللا قومية» مضادة ومقنعة لمجتمعاتهم، سوى ما يقومون به من تزوير وتقطيع وتضخيم لبعض الوقائع على حساب أخرى في الصيرورة التاريخية كما تجري في الواقع. فمعركتهم سياسية بالدرجة الأولى، وليس «التنظير» الانتقائي والشلفي، باسم الحداثة والديمقراطية وغيرهما، سوى لخدمة الاستسلام والتبعية المطلقة للمشاريع الهيمنية والاحتلالية لأمريكا وإسرائيل.
في الكتاب المذكور لبلال الحسن، عينات نموذجية لهذا «الفكر». وفيه نقد دقيق وتفصيلي لما قلته عن أحكام التحريف والتلاعب وتقطيع التاريخ، وخاصة في نقض العروبة و الصراع العربي – الإسرائيلي. ولذلك، سأكتفي هنا ببعض الإضافات كما تبينها الممارسة:
يقوم هذا «الفكر» على العودة إلى الأصول التاريخية لكل بلد لما قبل الفتح العربي الإسلامي. والعيب ليس في العودة بحد ذاتها، فالتاريخ العربي الإسلامي، مازال بحاجة إلى إعادة تنظيم عقلاني تاريخاني ينفتح على ما قبله، وعلى ما عرفه بعده من تعرجات ومسارات وتلاوين مختلفة في مرحلتي النهوض والجمود الطويل، وبعبارة أخرى، مازال هذا التاريخ بحاجة إلى «تدوين جديد» كما يستخلص المفكر عابد الجابري. لكن العيب في ذاك «الفكر» أنه يستبدل الحاضر بالماضي الغائر. والهدف هو تشطيب التاريخ العربي – الإسلامي، وهو الحاضر بقوة في ثقافتنا وشخصيتنا، كيفما تعددت التكوينات المجتمعية وبعض مظاهر الثقافات الخصوصية في مجتمعاتنا. والغاية من هذه العودة إلى الأصول التاريخية على حساب الحاضر هي نشدان انعزالية إقليمية غير ممكنة وضارة في جميع الأحوال.
وتقوم هذه الممارسة على تجفيف مناهج التعليم والضخ الإعلامي من كل ما ينمي في التربية المدرسية وفي الحياة الاجتماعية المواطن المنفتح على أفقه الحضاري الأوسع، ليكون قادرا على المشاركة والفعل فيه. وكيف له ذلك، والتاريخ الوطني نفسه، الملقن له، بعيدا عن أن يكون تاريخا عقلانيا ينمي قدراته الذاتية، لاقتصاره على خدمة التصور الرسمي الهادف لترسيخ شرعية السلطة القائمة ولا غير. وكيف له ذلك، إذا كانت لغته الوطنية مقصية في التعليم وفي أكثر من ميدان حيوي لامتلاء شخصيته ومستقبله.
وتقوم هذه الممارسة على توالي رفع شعار: مصر أولا، والأردن أولا، ولبنان أولا، وهكذا دواليك. ولا معنى لهذا الشعار، الصحيح في ظاهره، والمشبوه في باطنه، إلا إذا ما نظرنا إلى «أسباب نزوله» ولعلاقته مع ضده، وفي الحالتين ليس معناه إلا التنصل من التزامات التضامن العربي. وهو لذلك ما وجد إلا لخدمة الانعزالية الإقليمية وتبرير الخروج عن جميع الالتزامات المبدئية التي يستوجبها التضامن العربي، ومن تمَّ الإقرار بالحق في التطبيع أو التمهيد له. وهنا لابد من توضيح في غاية الدقة، لأن لا أحد يجادل في مبدئية المصلحة الوطنية أولا، لكن ينبغي أن تكون مصلحة وطنية فعلا بما هي من صميم مصالح الشعب، لا مصلحة لدعم وحماية السلطة القائمة فقط. وبدون الدخول في تفاصيل ميزان الربح والخسارة في المثال المصري الذي كان سباق في رفق لواء هذا الشعار لشرعنة اتفاقية كبد دافيد، ولا الوقوف عند تلك المواقف من داخل الشعب المصري الذي عارضها تحت طائلة المصلحة الوطنية أساسا، فإن تعامل إسرائيل مع الحالة المصرية كان تعاملا استثنائيا، بعد حرب أكتوبر وليس بمفاوضات سلمية فقط، وهذا ما يتناساه المعجبون بسلمية إسرائيل ودموية العرب. فإسرائيل، لم يكن بمقدورها أن تبتلع سيناء لأمد طويل، والأهم لديها كان تحييد مصر، القوة العربية الكبرى المحاذية لها، وهو كنز استراتيجي استثنائي أكبر بما لا يقاس بأي مكسب آخر. هذه الحالة المصرية الفريدة لا تنطبق على أية من حالات التطبيع الجارية اليوم، لأنها جميعا تطبيع بالمجان، ولحماية سلطة لا لمصلحة وطنية. أو هي في أقل الأحوال خضوع مجاني لابتزاز خارجي ترفضه الإرادة الشعبية، ويترك جروحا عميقة لذا الشعوب الشقيقة، الفلسطيني والسوري والأردني واللبناني، المتضررة من صفقة القرن مباشرة، ناهيك عن الضرر الاستراتيجي اللاحق بالقضية العربية والتحررية عامة. نعم، قد يكون هناك تفاوتات بين المصلحة الوطنية والمصلحة العربية العامة، لكن ينبغي دائما، قياس ميزان الربح والخسارة، بما لا يجعل من التفاوت تعارضا تاما مع المصلحة العربية العامة، والتي هي في الأخير مصلحة وطنية إستراتيجية أيضا.
وتقوم هذه الممارسة أخيرا وليس آخرا على تيئيس الشعوب العربية وإغلاق جميع أبواب التقدم والتحرر أمامها إن لم تنقدها المشاريع الأمريكية – الإسرائيلية تحديدا. وفي هذا المنحى يتم التصويب فقط على المآزق التي عانت وتعاني منها التجربة التحررية الفلسطينية والعربية أيضا، أما «المأزق التاريخي» الذي لا يمكن إطلاقا للمشروع الصهيوني الانفلات منه، فهو خارج التغطية والتساؤل النقدي.
ثلاث معادلات تدل
على هذا «المأزق التاريخي»:
أولها: ليس أمام إسرائيل أي خيار آخر، فإما أن تقبل بالدولة الفلسطينية تامة السيادة على حدود 67 وإيجاد حل مرض لمشكل اللاجئين، وحينها سيؤدي الوضع الجديد إلى لجم المشروع الصهيوني لينكفئ إلى النمو الحتمي لتناقضاته الداخلية، وهي عديدة في مجتمع لقيط من المهاجرين، ناهيك عن التناقض الأصيل مع فلسطيني الداخل. وإما أن ترفض هذا الحل، وتديم الاحتلال، إلا أن هذا سيفتح الباب لدولة ديمقراطية واحدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. والدولة الديمقراطية الواحدة هي المقتل الأخير للصهيونية. وفي الحالتين تنمو «القنبلة الديمغرافية الفلسطينية والتي ليس لإسرائيل إمكان كتمها ونزع فتيلها.
ثانيا : لم تعد لإسرائيل (حتى بقنابلها النووية) نفس قوة الردع وضمانات النصر في حروب جوية خاطفة وعلى أرض العدو، فالآلاف من الصواريخ التي تحيط بها والقادرة على الوصول إلى أي نقطة في جغرافيتها الصغيرة، وتحميلها ما لا يستطيع مجتمعها تحمله من تدمير وتضحيات، يطرح سؤال المصير على دولة علقت مصيرها كله على التفوق في القوة والردع والاعتداء والحرب.
ثالثا : قدرة الشعب الفلسطيني على الصمود والتضحية بلا حدود. أما تناقضات فصائله فثمة دائما مخارج لها، ولها أرضيات أدنى توحيدية سابقة في هذا الشأن، وإن طال تعثر تنفيذها، لكنها موجودة وممكنة. وفي جميع الأحوال، فالذي يراهن على انطفاء جدوة وحيوية الشعب الفلسطيني هو الذي عليه أن يقدم البرهان ! وأما أن التفنن في التيئيس كما فعل مؤخرا صاحب مقالة «اختراع القضية الفلسطينية» من جديد، والذي أغلقت مقالته جميع منافذ التحرر ووضعت جميع المواقف والمراحل النضالية في خانة الخسران المبين، وهو من الدعاة الأوائل لهذا الرهط من الاستسلاميين، فلا تذكرني إلا بجحا العربي، مع الفرق أن جحا الخرافي يمارس ذكاءه في قضايا اجتماعية وفردية هامشية، بينما جحا السياسي، يمارس فنه التيئيسي في قضايا جدية كبرى وتحتاج إلى الموقف السياسي الواضح والجريء وإلى الكثير من التبصر والصرامة العقلانية والمبدئية!