الامبراطور «كوفيد التاسع عشر» يهزم النظام الدولي الجديد ونظامه القيمي

«إن كانت هناك خطورة في مسار الإنسانية، فإنها لا تكمن في بقاء نوعنا، بقدر ما تكمن في تحقق المفارقة الكبرى للتطور العضوي، وهي أنه في لحظة التوصل إلى فهم للذات من خلال عقل الإنسان، تكون الحياة قد حكمت بالهلاك على أجمل مخلوقاتها»
إي، أو، ولسن

 

ثمة مكر ما في العالم، هو أن الإنسان لا يصل إلى فهم ذاته والوعي بمحيطه إلا حين يكون على حافة الموت، ولا يكثر عطاؤه إلا حين يصل الشيخوخة مثل النحل، محكوم عليه أن يموت بعد الإخصاب، الأمر لم يعد اليوم يتعلق بالإنسان كفرد، إذ تبدو الإنسانية كلها على حافة الانهيار، وعلينا أن نعي جيدا ما عنته الصحافية إليزابيت كولبرت في كتابها «الانقراض السادس: تاريخ لا طبيعي»، إذ نبدو كمن يهدم البيت الذي يسكن فيه، أو يقطع الشجرة التي يستظل بها، إننا شهود على الكارثة، حتى أننا لا ندري أي عالم سنسلمه لأبنائنا وننام باطمئنان من أدوا رسالتهم على أكمل وجه، مستنيرين بحكمة خورخي لويس بورخيس: «على مدى مئات القرون لا تحدث الأشياء إلا في الحاضر».
بعيدا عن التفسيرات القيامية التي تنتعش في الكوارث والأزمات الكبرى، فإن هذه التراجيديا المعممة التي خلفها فيروس «كوفيد 19»، وضعت العالم وجها لوجه أمام المرآة، حيث بدا مثل مخلوق «فينغنشتاين» البشع، عاريا من كل ما يستر سوءته، كيف دمّرنا هذا الكون الأنيق، وجففنا منابع الجمال فيه باسم إسعاد البشرية، وخلقنا كل هذا الاختلاف في الرزق المجحف وغير الطبيعي. ففي الوقت الذي تساوي فيه ثروة رجل غني من حجم بيل غيتس القيمة الإجمالية لثروات 106 ملايين الفقراء الأمريكيين، وتبلغ قيمة ثروة 15 فردا الأكثر ثراء في العالم كل الثروة الإجمالية لمجموع دول إفريقيا، إننا أمام أثرياء أصبحوا ليس فقط أغنى من الدول بل أغنى من قارة بأتمها.. وها هو فيروس كورونا يكشف نظاما تسيد فيه المال مدعوما بقوة تكنولوجية، عسكرية، اقتصادية وإعلامية.. لم تهتم سوى بالبحث العلمي الذي يهم تكييف سلوكات الإنسان المعولم مع حاجيات النافذين الكبار من سادة العالم المتحكمين في رقاب البشرية: إنتاجا وتسويقا، نهبا واستنزافا، وحين جاءت جائحة كورونا أسقطت كل نظامها الأخلاقي حول المساواة والعدالة، والقيم الكونية لحقوق الإنسان.. ويكشف انتشار الفيروس الفتاك وتفقيسه في حضن الدولة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، أن أغلب مخصصاتها للبحث العلمي كان يوجه وفق رغبات الشركات الكبرى، نحو تدمير الإنسان وخلق الجراثيم الخبيثة بدل ابتكار الأدوية المضادة لها.. ومن المفارقات هذا النظام المجحف أنه في الوقت الذي يموت الملايين من الجوع ومن أمراض حقيرة، يموت أغلب الأمريكيين من فرط السمنة أو من المغامرة في تجريب حواس أخرى غير الحواس المشبعة حد التخمة!
ليس فيروس كورونا غير جائحة كما الطاعون والكوليرا والتيفويد الذي كان يفني نصف عدد سكان أوروبا في القرون الماضية، لكن أثره في النظام القيمي والأخلاقي أقوى بكثير مما سيحصده من أرواح، وهو شيء لم يكن أحد قادرا على التنبؤ به حتى بيير بورديو الذي قال: «تشكل الليبرالية الجديدة سلاحا لضمان النصر، فهي تعلن عن قدرية اقتصادية لا تنفع في اعتراضها أية مقاومة، لأنها مثل السيدا تدمر جهاز المناعة في ضحاياها»..
إذا لم تحم المناعة الذاتية للقوى العظمى نفسها من وباء كورونا المستجد، سيكون من باب القذارة الإنسانية التشفي بما يحدث في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية، فلا يتعلق الأمر أبدا بدار الكفر أو الحرب، وإنما بعالم متوازن نشهد انهياراته بكل أسى، بكل هذه الكينونة الجميلة التي عشنا على الأقل كمتفرجين على ملذاتها، إذا لم نستطع إلى ذلك سبيلا، نحن الذين لا تزال تحصد أرواحنا أمراض الحصباء (بوحمرون)، السل، المينانجيت، والجوع والبرد والداء الأكبر الفقر والجهل..
لقد وصل النظام العالمي الجديد إلى الباب المسدود، وعرّى كورونا ـ بعد حرب الخليج الثانية وما تلاها ـ آخر أوراق التوت عن طابعه الوحشي وغير الإنساني، لأنه بدأ يأكل ذيله كما جسد ذلك الفيلم الأمريكي الرائع «wag the dog» (يهز الكل ذيله).
أكيد أن العالم لن يصبح كما كان عليه الأمر قبل فيروس كورونا، لكن سيكون بلا مذاق ولا طعم إذا لم يستعد تلك الأخلاق الكبرى المؤسسة لروح الكون ولم يع تحذير جان جاك روسو حين قال: «سوف تضيع إذا نسيت أن الثمار للجميع والأرض ليست لأحد»، فشعار: «دعه يعمل، دعه يمر»، تحول إلى: «دعه يحتكر، دعه يملك الكل»، في ما يشبه خوصصة هذا الكون الذي زحزح فيروس كورونا كل ثقتنا بأسسه الأخلاقية التي بني عليها.


الكاتب : عبد العزيز كوكاس

  

بتاريخ : 05/04/2020