يشكل إضافة نوعية للمكتبة التاريخية المغربية والجزائرية
صدر عن مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال سنة 2020 كتاب بعنوان «الأمير عبد القادر الجزائري والسلطان المغربي عبد الرحمان: من التعاون إلى الصراع (دراسة تاريخية : 1832- 1847) لصاحبه الباحث إبراهيم ياسين، وهو في أصله رسالة جامعية تقدم بها صاحبها لنيل درجة دبلوم الدراسات العليا المعمقة تحت إشراف الأستاذ إبراهيم بوطالب.كما يعد هذا الكتاب تتمة لكتاب سابق لنفس المؤلف تحت عنوان: «سلطة مغربية بغرب الجزائر «، والذي صدر سنة 2015.
وإذا كان هذا الكتاب الأخير يجيب عن أسباب فشل المحاولات المغربية للاستمرار في دعم الأمير عبد القادر الجزائري؛ مرجحا عجز ممثلي السلطان في تسوية النزاعات بين بقايا النظام التركي، والقبائل المعادية للأتراك وضعف الامكانيات المغربية للتوحيد بين الجزائريين وبقايا النظام التركي المنهار لمواجهة الزحف الفرنسي نحو الحدود المغربية الجزائرية، حسب بنود معاهدة واد تافنا، سيما وأن الغاية كانت هي نهج المغرب سياسة وقائية للحفاظ على سيادته ودعم غير مباشر لتحقيق نفس هذه الأهداف وهي السياسة التي ثبت محدوديتها ممباشرة بعد هزيمة إسلي 1844. وضمن فصول هذا الكتاب، الذي نقدم قراءة فيه، يحاول صاحبه التحقق، انطلاقا من الوثائق المغربية والفرنسية، من مواقف المخزن المغربي من الاحتلال الفرنسي للجزائر من بدايته إلى أفول نجم الأمير عبد القادر الجزائري سنة 1847، والتحقق كذلك من مجهودات دور الدولة المغربية والمجتمع المغربي في نهاية جهاد الأمير عبد القادر وإخفاقه. وقد أخضع إبراهيم ياسين دراسته لمنهج صارم يأخذ بعين الاعتبار متطلبات المنهج التاريخي الحديث، من خلال التركيز على الوثيقة ، متحريا في ذلك الدقة والموضوعية مؤكدا أن غايته تروم تصحيح الأخطاء المتداولة تاريخيا حول العلاقات المغربية الجزائرية خلال فترة الدراسة، وكذا من أجل ملء البياضات التي ميزت هذه الفترة في الدراسات السابقة حول نفس الموضوع؛ وقد أكد إبراهيم ياسين في أكثر من مقام أنه كان لزاما عليه التمييز، وهو ينجز بحثه، بين المناضل الوحدوي المتحرر من قيود الوطنية الضيقة، والباحث المقيد بشروط المنهج التاريخي السالف الذكر بعيدا عن الحسابات السياسوية الضيقة التي طغت على جل الدراسات التي تناولت الموضوع.
وعلى مستوى المدة الزمنية التي تغطي موضوع الدراسة، فإنها تدخل ضمن ماسماه ابراهيم ياسين بالتاريخ الحدثي الذي يسعى لرصد الأحداث التاريخية الرئيسية وأدوار الأشخاص الرئيسيين البارزين الذين يمثلهم السلطان وحاشيته في المغرب، والأمير عبد القادر ورجاله في الجزائر ، بالاضافة إلى القادة العسكريين الفرنسيين.
يحسم إبراهيم ياسين في كون دراسته التاريخية للعلاقات المغربية – الجزائرية لايمكن أبدا أن توصف بالدراسات التاريخية الكلاسيكية التي تسلط الضوء على الأحداث السياسية والعسكرية، وتغفل دور البنيات في التاريخ وهو مايستشف بالفعل من خلال تتبع مضامين فصول هذه الدراسة البحثية؛حيث تتبع الباحث بالدراسة والتحليل دور القبائل الجزائرية ومؤسساتها من زوايا وأعيان وفقهاء في تطور مسار الأمير عبد القادر دعما أو خذلانا له، وهو نفس الشيء الذي ينطبق على المغرب من خلال تفاعلات المجتمع المغربي وبخاصة قبائل الريف وشمال شرق المغرب مع تحركات الأمير عبد القادر من جهة، ومع مواقف السلطان المغربي في تسلسلها وتقلبها من جهة أخرى. هكذا يتعرض الباحث لمواقف المخزن المغربي والرعية موازاة مع تطور مواقف القطاعات الاجتماعية التي لعبت دورا كبيرا في خلخلة الأحداث المرتبطة بحركة الأمير عبد القادر وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ مواقف قبائل الشمال والشرق، وتجار فاس وفقهائها، ورجالات الزوايا التي كان لهم دور ملحوظ في تطور الأحداث بالسلب أو الإيجاب. ومن جهة أخرى فإن الدراسة أماطت اللثام عن أدوار القوى الأجنبية المؤثرة في الأحداث سيما وأنها أصبحت ترى في فرنسا دولة إمبريالية تتحين الفرصة للانقضاض على المغرب مباشرة بعد هزيمته في معركة إسلي.
حاول إبراهيم ياسين، وهو المؤرخ الذي خبَّر تاريخ العلاقات المغربية الجزائرية، دحض مقولات الخيانة التي التصقت بالمغرب في عدة كتابات مغرضة أنجزها إعلاميون وسياسيون خلال سبعينات القرن الماضي، وهي الكتابات التي تأثرت بالأزمات الدورية التي عاشها البلدان، أو من مواقف الأمير عبد القادر الذي فقد المساندة المغربية المأمولة، وهي المواقف التي زاد من حدتها مؤلف «تحفة الزائر « لمحمد بن عبد القادر الجزائري.
إن الزخم الوثائقي المتنوع الذي اعتمد في هذه الدراسة وبحسب المؤلف يمكنه،حسب المؤلف، التقليل من وتيرة الصَّدع الذي نتج عن الصراع الإيديولوجي بين الجارتين؛ رغم أن الرصيد الوثائقي المعتمد في هذه الدراسة، والذي زاوج بين الأرشيفين المغربي والفرنسي، لم يكن كافيا بحسب المؤلف، للإحاطة الشمولية بكل جوانب الموضوع تجنبا للانحياز إلى إحدى الروايتين،وهو مايعني أن الأرشيف الجزائري والمغربي بإمكانهما ملء البياضات في دراسة العلاقات المغربية الجزائرية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
يتكون الكتاب من ستة فصول وخاتمة تغطي أحداثا تاريخية امتدت زهاء خمسة عشر سنة طبعت مسار العلاقة بين سلطان المغرب عبد الرحمان بن هشام والأمير عبد القادر،وعبر هذه الفصول يمكن للقارئ تتبع كرونولوجيا هذه العلاقة والتي ابتدأت بالتعاون بين الطرفين لصد القوات الفرنسية عن الغرب الجزائري، مرورا بالشنآن بعد هزيمة الأمير والتجائه إلى قبائل الشرق والريف ونهجه لسياسة الكر والفر، مما أصبح يهدد عرش السلطان لتنتهي هذه العلاقة بمواجهة دامية بينهما انتهت بتسليم الأمير عبد القادر نفسه للقوات الفرنسية التي ظلت مرابطة عند الحدود الجزائرية المغربية .
يستهل ابراهيم ياسين كتابه بالحديث عن السياق التاريخي الذي بويع فيه الأمير عبد القادر الجزائري أميرا لقيادة الجهاد ضد الفرنسيين في الغرب الجزائري من طرف أعيان منطقة معسكر. ونظرا لأن الظروف التي ظهر فيها الأمير كانت صورتها قاتمة، فإن سلطان المغرب أبدى تحفظا من الاعتراف بشرعية وأحقية الأمير بالبيعة والإمامة، ولم يتحقق هذا الاعتراف حسب المؤلف إلا بعد أن اعترف هذا الأخير بنوع من التبعية إلى السلطان الذي سيبدي نوعا من التعاون معه. وحسب الوثائق المعتمدة في هذه الدراسة فإن السلطان المغربي رأى في الأمير ذراعا واقيا لتهديدات القوات الفرنسية التي كانت تتربص بالشرق المغربي، وذلك بنهجه سياسة وقائية قائمة على مساندة الأمير بالعدة العسكرية مقابل التظاهر أمام الفرنسيين بالحياد، وعدم التدخل في الشؤون الجزائرية لاحتواء الخطر الفرنسي داخل المراكز الساحلية دون أن تتجاوزها. والملاحظ حسب مضامين هذا الكتاب أن السياسة الوقائية التي نهجها السلطان المغربي أعطت أكلها وأخرت الاندفاع الفرنسي في اتجاه الغرب الجزائري.
يرى صاحب الكتاب أن الدعم المغربي للمقاومة الجزائرية استمر بدون انقطاع إلى حين نقض معاهدة تافنا من طرف الأمير والقوات الفرنسية، سيما وأن فرنسا استولت على قسنطينة وهو ما أربك حسابات الطرف الأول الذي رأى أن الامكانيات التي قدمها المغرب لاتوفي بالغرض لمواجهة القوات الفرنسية الهائلة منذ بداية سنة 1841، وهو ما نعكس على طبيعة العلاقات الفرنسية المغربية حيث دخل الطرفان في مفاوضات حاسمة لتحديد الحد الذي لايجب أن تتجاوزه القوات الفرنسية سيما وأن الأمير بدأ ينهج سياسة الكر والفر والاحتماء بقبائل الشمال والشرق، وهو ما أصبح يشكل خطرا محدقا بالسيادة المغربية بعد توالي سلسلة ملاحقات القوات الفرنسية له في التراب المغربي.
تعتبر فترة لجوء الأمير عبد القادر الجزائري إلى قبائل الريف والشرق لحظة حاسمة في تغير مسار التعاون بينه وبين السلطان المغربي، وكذا على مستوى العلاقات المغربية الفرنسية؛ فمن جهة أصبح للأمير أتباع في المغرب حيث نال عطفهم، ومن جهة أخرى أصبحت هذه الوضعية الأخيرة تهدد عرش السلطان الذي لم تكن علاقته بقبائل الشرق والريف جيدة وهو مادفع السلطان إلى تغيير استراتيجية التعامل مع الأمير دون أن يعلن جهرا عن نيته في مواجهته خوفا من خروج هذه القبائل عن البيعة والطاعة وانقيادها للأمير. وبتصاعد الضغط الفرنسي الذي انتهى بهزيمة المغرب في معركة إسلي، فإن السلطان سيضطر غير باغ إلى تغيير مسار علاقته مع الأمير دون أن يتجاوز ذلك الليونة حيث عرض عليه خيارين؛ إما أن يغادر مع أتباعه إلى الصحراء أو اللجوء إلى أحد العواصم المغربية والاستقرار بها، وهو العرض الذي تعامل معه الأمير بنوع من المراوغة وعدم الجدية بحسب مظان الوثائق المعتمدة في الدراسة.وعلى غير ماذهبت إليه نتائج بعض الدراسات، فإن إبراهيم ياسين يرى اعتمادا على وثائق أصيلة أن السلطان المغربي لم يلجأ إلى القوة العسكرية لمواجهة الأمير إلا مع حلول صيف 1847. ورغم سياسة السلطان القائمة على التضييق على الأمير ، وتهديد القبائل المغربية التي أضحت في حكم الخاضعة له، إلا أن الأمير احتدت شوكته وأصبح له أتباع كثر، ونظرا لرفضه الانصياع لعرض السلطان ومراوغته له، فإن أول مواجهة عسكرية دامية بين الطرفين انتهت بصد الأمير شرقا وهو ما اضطره إلى تسليم نفسه للقوات الفرنسية، وهو ما اعتبره السلطان، حسب مايستشف في إحدى رسائله لولي عهده، نهاية لخطر كاد أن يحدق بعرشه أكثر من الخطر الفرنسي.
لقدحاول صاحب الكتاب تقييم مسار العلاقات المغربية الجزائرية، معتبرا أن هزيمة قوات الأمير في الغرب الجزائري سنة 1843، وهزيمة قوات السلطان المغربي في وقعة إسلي سنة 1844تفسران بالتفوق الواضح على مستوى القوات العسكرية الفرنسية تنظيما وتاكتيكا وعدة، ومن جهة أخرى بسبب جمود المجتمع المغربي ونظيره الجزائري اللذين عاشا على وطأة الجهل والتخلف طيلة فترات الاحتلال التركي للجزائر، والاحتلال الإيبيري للشواطئ المغربية، وهو مايفسر صراحة عدم قدرة الأمير على توحيد ربوع الغرب الجزائري وفشل السلطان في تسييره وصد القوات الفرنسية عن التوغل في الاقاليم الشرقية المغربية.
وخلاصة القول؛ فإن موضوع العلاقات المغربية الجزائرية خلال القرن التاسع عشر لايزال تثير فضول الباحثين، في الجارتين، من مختلف مشارب المعرفة إما بهدف دحض الروايات الرسمية أو بدافع البحث عن الحلقة المفقودة في انتقال العلاقة بين السلطان والأمير من التعاون إلى المواجهة العسكرية، سيما وأن الدراسات المغربية لم تتجاوز في مادتها المصدرية الأرشيفين الفرنسي والمغربي، وغفلت مقارعتهما بالأرشيف الجزائري. ومن جهة أخرى فإن هذا الكتاب يعد إضافة نوعية للمكتبة التاريخية المغربية والجزائرية نظرا لما يطرحه من قضايا أصيلة تحتاج إلى مزيد من تسليط الأضواء عليها، سيما وانها لم تكن في حد ذاتها هم الباحث إبراهيم ياسين هذا الأخير حاول جاهدا أن يضع حدودا بين مناضل سخر نفسه للنضال السياسي خارج مساعي الوطنية الضيقة، وباحث تتلمذ على يد الطبقة الأولى من الاساتذة الجامعيين المغاربة فجاء كتابه هذا مرآة تعكس تمكنه من المنهج التاريخي المعتمد والوثيقة التاريخية التي أحسن استخدامها وتأويل مضامينها بعيد عن أية صراعات إيديولوجية ضيقة.
أستاذ باحث بالمركز الجهوي
لمهن التربية والتكوين بجهة بني ملال خنيفرة