ألوَاحُ مَا بَيْن مَهْدٍ وَلَحْد
محمّد محمّد الخطّابي (*)
حسْبُ الخَلِيلَين كَوْنُ الأرض بينهما / هذا عليها وذاك تَحْتها رِممَا
صَاحِ .. تُرىَ إلى أين…؟ وأنتَ لا تحمل من متاعٍ رحلة العُمر المُضنية سوى حقيبةٍ الصّبر، ما فتئتَ تحتفظ بها لنفسك تماشياً مع المثل السّائر، والقول المأثور عن السّفر من مهدك إلى لحدك.. القائل: ” ينبغي للمسافر خلال رحلة العُمرأن تكون له عينا صقرٍ يريان كلَّ شئ، وفم خنزير يأكلُ كلَّ شئ، وأذنا حمارٍ يسمعان كلَّ شئ، ورِجْلاَ معزةٍ، لا تتعبان من المشي، وأن يكون له – وهذا هو الأهمّ- حقيبتان الأولي مملوءة بالمال، والثانية مملوءة بالصّبر…وهذه الأخيرة هي الوحيدة التي كانت من نصيبك ولاتزال..! وبها أو بواسطتها لقّنك الصّبرُ، وعوّدك الجَلدُ على المواجهة،والمشاكسة، والصّدود، والصّمود،والعناد، فمُذ كنتَ وأنت تمارسُ الألم، وتعانق الحزن، وتعيش الضّنك، وتحيا همومك بتفانٍ وأنينٍ، وها قد أمست معاناتك اليوم هموماً مُزمِنة دائمةٌ غير قابِلةٍ، ولا آيلةٍ للنقاهة والتعافي والشّفاء.. ألمْ ترَ.. كيف أجهدتَ نفسَك خلال سَهَرِك فى الليالي الحالكات مع أحد أطياف قراءاتك المتعدّدة والطويلة،وبشكل خاص مع “فاوست” المسكين، المنكود الطّالع الذي أجهد نفسَه هو الآخر فى مُدرجات دراسة الفلسفة، والآداب، وتفقّه مثلك فى المنطق، و علم الفلك، والقانون، وألمَّ أيضاً، ويا للأسف، بعلوم الأديان، والعبادات، واللاّهوت، ولكن هيهات، إذ تراه، تراك ما زلتما كما كنتما من قبل، لم تزدادا عقلاً، ولم تنتفعا علماً، ولم تغترفا معرفةً، ألم يدفع كلّ ذلك بك إلى الإعلان أو الاعتراف بهذه الحقيقة المرّة..؟ عن عجزك فى الغوْص فى كنه المعارف، وسَبر أسرار الحكمة، والإدراك الحقيقي لهما، واستيعاب واقع حياتك، وجوهر وجودك، وعدم قدرتك، أو قصورك فى مواجهة أو مجابهة ما يملأ عالمك الشّاحب الكئيب من طلاسم، واضطرابات، وتقلّبات،وغموض وإبهام، وإبهار، وقلاقل، وأهوال..؟ حتى كاد أن يبلغ بك الأمر أن تبيع نفسك مثل “فاوست” السيّئ الطّالع المنكود للملعون الرّجيم ..سامحك الله، وسامح خِلّيْك، وخَليليْك ” يوهان غوته ” و” فيردريك نيتشه” إذ ما فتئت قولة هذا الأخير المأثورة، وحكمته المشهورة ترنّ فى إذنيْك، إنه يقول: ” ” سيظلّ الإنسان يعاني خلال مَسَار حياته بشكلٍ فظيع فى هذا العالم الأرعن الذي أُرْغِم فيه على اختراع الابتسامة..”.!
لا شئَ يهمّ أيّها الخلّ المكلوم .. أيّامٌ تمرّ، وليالٍ تنقضي، وسنونٌ تهرولُ تاركةً وراءَها غباراً ونقعاً، وعَجَاجاً وتجاعيدَ مُرعبة محفورة فى جبين الزّمن، وخيوطاً متناثرةً ملتاعةً من شيبٍ رهيبٍ،وعيبٍ مخيفٍ لا شئ يقف فى طريق زحفهما المدمّر المُتقدّم أبداً إلى الأمام بدون رحمة، أو بالأحرى العائد الرّاجع القهقرىَ إلى الوراء فى عزمٍ وحزم،وتحدٍّ عنيد .
أيّها الصّديق المغلوب على أمره، الخائر القوىَ، المسلوب العزيمة، والمهزوم الإرادة، أراكَ لا تعبأ، ولا تبالي بما يجري ويدور حولك، إنك لا تفتح عيناً، ولا تعير أذناً، ولا تحرّك ساكناً، ولا تفصح لساناً، لا يشغلنّك شئ ممّا يدور، وما يحدث من أمور هذه الدنيا حولك، وكأنّ هذا التبدّل، وهذا التحوّل لا يصيبانك، ولايعنياك وليس لك منهما نصيب..!
تحاول عبثاً أن تقطع كلّ صلة لك بهذا الواقع، وكأنّه أُعْطِي لك قسراً رغماً عنك فكان حتماً عليك أن تحياه غصباً، فغدا العذاب ديدنك، أيّانَ ما كنتَ يأتيك، وأيّانَ ما ولّيتَ يتعقّبك، وأيّانَ ما اتّجهتَ يلحق بك ويدركك، وليس لك منه هروب، ولا فرار، ولا فِكاك، ولا نكوص، ولا مَناص، ولا مَلاذ .
تحاول الإنفلات،والهروب من نفسك إلى نفسك ! لم تجد سلوةً ولا سلواناً يُقصيان عنك ما أنتَ فيه، وينسيانك ولو إلى حين ما يعتمل بك وبذاتك، وما يفور فيك وبداخلك، تمضي غيْرَ آبهٍ بما يجري حولك، وكأنّك قد وضعتَ على عينيْك عصابتيْن كي لا ترى..!..وحشوتَ أذنيْك بصمّامتيْن كي لا تسمع..!. وأغلقتَ فاك حتى لا تنطق ببنت شفة..!
طالما تعالت أصواتك مُجلجِلةً فى الفضاء الواسع الفسيح، ولكنّك لا تسمع من رَجْعِها سوى أصداء ضبابية مُبهمَة، وهمسات غامضة خافتة سرعان ما تضيع وتتلاشى فى السّديم الأثيري اللاّمحدود البعيد، وتختفي فى طيّاته اللاّمتناهية، وثناياه اللاّمنتهية، وتظلّ موثوقاً إلى الأرض، مربوطاً إلى الجُذور الضاربة فى أعماق الثرىَ، مشدوداً إلى الأديم كإعلان تافه مُلصَق إلى جدارٍ عالٍ، أو مُعلّقٍ على عمُودٍ مُنزوٍ لا تطوله أيدي العابثين .إعلان أنت إذن..! أو مشروع إعلان عن زيف واقعك الكئيب، وعالمك المنكود الذي قيّض القدرُ لك أن تواجهه، وأن تحياه على مَضَض.
كثيراً ما تساءلتَ ونفسَك ما جدوىَ هذه الحياة التي لبستَ ثوب عُمرِكَ فيها قهراً وقسراً، هذه الحياة التي تسلبك أكثرَ ممّا تعطيك.. لا تدع عقلك يهيم وراء هذه الترّهات، ويجترّ خلف هذه التفاهات، وينساق مع هذه الخزعبلات، ويضيع فى غياهب هذا الهراء الأبكم، وهذا الخواء الأصمّ، فلا تجد بين يديْك سوى قبضٍ من ريح، أو مَحصُول حَصَادٍ من هشيم، ثُبْ إلى رشدك، وأبعدْ عن غيّك، واهجر مروقك، ومجونك،وجنونك، وعُد إلى حالك، إنك عبثاً تسير فى إتجاهٍ مُضادّ، وتسبح فى خضمّ تيّارٍ معاكس، العالم حولك يمضي إلى حال سبيله، وأنت واقف، حائر، صامد، صامت، صلد،راسخٌ لا ترومُ حِراكاً..! لقد أبحتَ لعدوانية الشرّ الكامنة فى قرارة نفسك، وفى نفس كلّ من يدبّ على الأرض حولك أن تعمل فعلها فيك، وها هي ذي تكاد تحطّمك، وتدمّرك، وتذيقك أكؤساً دهاقاً من عذابٍ، ونطعٍ، ومضضٍ ومرارة، وحنظلٍ مُختلفٍ ألوانُه وشرابُه.
ليس سرّاً يُذاع على مَسامعك، فكثيرون قبلك، وكثيرون بعدك، وكثيرون مثلك حاولوا صنعَ صنيعك، ولكنّهم جميعاً أخفقوا لأنه ليس هناك من قوّةٍ على وجه الثرىَ تستطيع تغيير مجرىَ نهرك الجارف الجاري بتدفّقٍ بدونِ توقّفٍ إلى مُنتهاه، والذي نسمّيه إصطلاحاً رحلة مسار العُمر ما بين ألواحٍ عاليةٍ،وشواهد ناتئة، وصُوىً قائمة،أو ما بين مهدٍ ولحد، وقبرٍ ومنبرٍ، إنها الحياة التي تمضي قدماً إنطلاقاً من نبعها الأوّل منذ هنيهة مسقط رأسك، فى إتجاهٍ محدّد، مرسوم نحو المَصبّ النهائي المحتوم، والمثوى الأخير..! إنّها نواميسُ الحياة، وإنْ أنت بين أكوام نهرها العرمرم الأتيّ المنهمر وبين هشيم أكداسه إلاّ قشّة هشّة تتقاذفها الأنواءُ، و تعبث بها الرّياح.
إنه قدرُك أيّها الصّديق.. فبحياتك أشياء تروعك، ولا تروقك، ويذهل لها عقلك، إنّك ترىَ العالمَ كلَّه مُستغرقاً فى ضحكٍ مُبكٍ مُسترسَل ٍ،حتى الذي يمزّق أحشاءَه الطوى..حتى الذي تعرّض بيته للدّمار، حتى الذي هُجِّر من موطنه قهراً وقسراً، حتى الذي يمدّ يديْه لسدّ الرّمق خصاصةً فى الأزقة الضيّقة، حتى الذي يزحف بقدَمٍ واحدة بين الدروب المُعتمة، حتى الذي ظفر بعين واحدة، كلّ هؤلاء وأولئك ترى شفاههم تندّ عن ضحكاتّ.. وأنتَ ..أنت الذي لم تبخل عليك الحياة بشئ، تراك تشتكي فى عَناء وشقاء، وتبكي بكاءً صامتا،عقيماً، ممطوطاً، مكتوما ً.
مهلاً أيّها الصّديق..! سِر على رشدك، فالحياة ديمومة، وهي تحدٍّ وتجدّد، وجذل وسعادة، وموت ونحيب،وبِشْر ونعيّ، وعليك أن تخضع لناموسها، وأن ترضخ لسننها، وأن تتقبّلها كما أعطيتْ لك، إنك ما زلت تنتظر قدوم اليوم الذي تخرج فيه من شرنقتك، وما برحت تأمل فى أن تكون لك أجنحة لتحلّقَ بها كالنوارس الطليقة فى الأجواء الفسيحة العالية بدون قيْدٍ ولا صَفدٍ..ولكنك أبداً تظلّ مشدوداً إلى أديم الثّرى،عالقاً بوجه أمّك الأرض الأولى والأخيرة، ففيها مسكنك، وفيها ملاذك، وفيها مقامك، وإليها مثواك ومرجعك، ولا فرق بينك وبين الذي يرقد تحتك فى سلام، فقديماً قالت الباكية الشاكية،الرثّاءة النائحة الخنساء: حسْبُ الخَلِيلَين كَوْنُ الأرض بينهما / هذا عليها وهذا تَحْتها رِممَا.
صَاحِ…
ما أنتَ بزارعٍ، ولا ذارعٍ، ولا أنت بحاصدٍ ولا مُبذر..أنتَ هو أنتَ وكفى،تعيش غدك قبل يومك، وتحيا يومك قبل أمسك، وتستمتع بنهارك قبل ليلك، وتمضي لا تلوي على شئ، تلك هي شِرعتك ويا لها من شرعة ..!.
لقد قصمتْ كاهلك الهُمُوم، وأثقلت كلكلكَ الظنُون، وناءت برأسك أفكار،وخامرتك شكوك،وراودتك أحلام، ولكنّك لا تدري أيّاً منها تنتقي وتختار لنفسك لتكون لك عكّازاً تتّكئ عليه فى طريقك خلال وعثاء السّفر، ومشقة اجتياز العُمر، وليكون لك نوراً ومناراً يضيئان لك دياجي الظلام الدامس فى دهاليز حياتك المُقفرة وفلسفاتها الرّهيبة التي ما فتئت ترفضها رفضاً، وترفسها رفساً، وتبحث دوماً عن البديل، وعذرُك أكبُر من زلّتك، فأنت تتبجّح، وتترنّح وتدّعي أنه لو كان فيها خير للناس لسبقك إلي معانقتها والتدرّع بها غيرُك من بني طينتك، ومن أحفاد جلدتك، ولأكتشفوها، وفهموها، وعملوا بها قبلك، لذا فقدتَ الأملَ الناجي، وتسربلتَ بأردية عدم الإكتراث واللاّمبالاة…
صاح..
المشكلة إذن فى آخر المطاف ليست مشكلتك، ولا معضلة فاوست يوهان غوته، ولا معاناة فيردريك نيتشه، وإنما هي مشكلة، ومعضلة، ومعاناة كلّ إنسان حيٍّ يدبّ على قدميْن على وجه هذه البسيطة، تلك هي حال الدنيا، وذاك هو ناموسها، وصندوقها العجيب الذي تتقاذفه التوابع، والزوابع، وتلهو به العواصف والأعاصير، و تعبث به الأنواء والرياح، ولا يجد هذا الإنسان المسكين مَقرّاً، ولا مُستقرّاً، ولا مَناصاً، ولا مَهرباً، ولا مَلاذاً، ولا مَنفذاً، ولا مَخرجاً، ولا مَفرّاً له من قدَره المحتوم سوى الرّضوخ للأمر الواقع، وقبوله بحُلوِه، ومُرِّه، وخَيرِه، وشَرّه، وآمالِه، وآلامِه، ونعيمِه، وشقائِه، وتخوّفاتِه، وتوجّساتِه،وهدوئِه، وقلقِه.وصخبه،ودأبه، ولجَبه، إذ لا أحدَ يمدّ إليك يد الغوْث من وراء الغيب لينتشلك ممّا أنت فيه، فامضِ فى حال سبيلك، لعلّك تلتقي يوماً على ثبج لجِّ يَمِّ إبحارك بزوْرقِ إنقاذٍ،أوبالأحرى،بطوق نجاة….!
__________________________
(*) كاتب،وباحث، ومترجم من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.
الكاتب : محمّد محمّد الخطّابي (*) - بتاريخ : 20/04/2020